أنواع الشخصيات في الرواية: دراسة موسعة ومعمّقة

تتبوأ الشخصيات مكانة جوهرية في بنية أي عمل روائي؛ فهي القاعدة التي تنهض عليها الأحداث والحوارات، وتتحرك ضمنها الصراعات الدرامية، وتُصاغ على ضوئها الرموز والدلالات. تساعد هذه الشخصيات في عكس واقع المجتمع وفهم طبيعة النفس البشرية وتحوّلاتها. لهذا السبب، تُعد دراسة الشخصيات الروائية من أكثر الجوانب أهمية وتعقيدًا في النقد الأدبي. إن إدراك الفروق المتعددة بين الشخصيات، مثل دورها في السرد، ومستوى تطورها، وعمقها النفسي، يمثل الأساس لفهم معمّق للعمل الروائي نفسه.

ترتكز أغلب النظريات الأدبية على فكرة أن الشخصية ليست مجرد أداة عشوائية في بناء الحبكة، وإنما كيان مصنوع بحِرفيَّة تجمع بين الخيال والواقع؛ بحيث تصبح لها أبعاد نفسية واجتماعية وثقافية واضحة. ومن الجدير بالذكر أن هذه الأبعاد لا تتشكل عشوائيًا، بل تتأثر بالخبرة الفنية والوعي الإبداعي للكاتب نفسه، إلى جانب السياق التاريخي والحضاري الذي يُكتب في ظلاله العمل الروائي. إن تحليل هذه الشخصيات وفهم أنواعها يقودنا إلى رؤية شمولية لأهداف النص، وما يحمله من رسائل فكرية وجمالية.

في هذا المقال المطوَّل، تنبثق رحلة استكشافية لأبرز أنواع الشخصيات في الرواية، وفقًا للمدارس النقدية التقليدية والمعاصرة، مع الإشارة إلى أمثلة من الأدب العربي والعالمي. وسيتم التركيز على الأبعاد النفسية والاجتماعية لكل نوع من الشخصيات، ثم تتبع وظائفها في الحبكة، ومدى تأثيرها في إثراء الرؤية الجمالية والفكرية للعمل، كما سيُشار إلى بعض التقنيات الفنية لصياغة الشخصيات، وطبيعة تفاعلها مع أحداث الرواية وعناصرها الأخرى. وفي الختام، تُطرح بعض المنهجيات التي يستخدمها النقاد والباحثون في تحليل الشخصيات لاستخلاص الرموز والدلالات الكامنة. هذه الرحلة التفصيلية تهدف إلى تقديم نظرة شاملة وعميقة في آن واحد، ما يساهم في فتح آفاق جديدة للكتّاب والنقّاد والقرّاء على حدّ سواء.

أهمية الشخصية في البناء الروائي

تُعَدّ الشخصية إحدى الركائز الرئيسة في الرواية، إذ من خلالها يختبر القارئ العالم الداخلي والخارجي للنص. يسهم وعي القارئ بسلوك الشخصيات ودوافعها في تعاطفه مع القضايا التي تُطرح. وإذا كانت الحبكة هي سلسلة الأحداث التي تقوم عليها الرواية، فإن الشخصيات هي القوة الدافعة التي تحرّك تلك الأحداث وتضفي عليها بعدًا إنسانيًا وفكريًا.

تنشأ أهمية الشخصية من مجموعة عوامل:

• التجسيد الواقعي أو الخيالي: تقدم الشخصيات صورة ملموسة للحياة الإنسانية، إمّا بشكل واقعي يستند إلى تجارب الحياة اليومية أو بشكل خيالي رمزي يستلهمه المؤلف من عالم المخيّلة.
• جذب اهتمام القارئ: الشخصيات القوية والمتقنة الصياغة تستحوذ على تركيز القارئ، فتجعله يرغب في معرفة مساراتها النفسية وسلوكياتها.
• تطوير الحبكة: الشخصية الفعّالة هي التي تتحرك وتؤثّر في الأحداث، وقد تتأثر بدورها بالأحداث لتُحدث انعطافات جذرية أو تدرّجًا تدريجيًا في مسار الرواية.
• عمق البعد الإنساني: تتيح الشخصيات للكاتب استكشاف عوالم نفسية معقدة، كالطموح والخوف والحب والكره والصراع مع الذات أو مع الآخر، ما يعطي الرواية زخمًا إنسانيًا عميقًا.

لمحة تاريخية عن تطور مفهوم الشخصية

مفهوم الشخصية الروائية تطوّر عبر الزمن، مرورًا بعدة تحولات متأثرة بالمدارس النقدية والفكرية في كل حقبة. في النصوص الكلاسيكية الإغريقية مثل أعمال هوميروس في الإلياذة والأوديسة، نجد الشخصية تتجسد غالبًا في إطار بطولي يتسم بالعظمة والشجاعة. في تلك الحقبة، لم يكن هناك اهتمام كبير بالبعد الداخلي النفسي للشخصية، بقدر ما كانت تركز الملحمة على إبراز سمات الأبطال (الأوديسيوس أو أخيل) والصراعات التي يواجهونها مع قوى الطبيعة والآلهة.

مع ظهور أدب القرون الوسطى في أوروبا، تأثّر بناء الشخصية بالسياق الديني والمجتمعي. فالشخصيات غالبًا ما كانت تمثل نموذجًا مثاليًا (البطل الفارس النبيل) أو شخصية شريرة ترمز للشيطان أو الظلام. كانت الشخصيات ترتبط بالرمزية الدينية والأخلاقية أكثر من ارتباطها بواقع إنساني متكامل. في الأدب العربي القديم، كالقصص الشعبية (مثل حكايات ألف ليلة وليلة)، والشعر الملحمي (مثل سيرة عنترة)، اتسمت الشخصيات بالبطولة والشجاعة أو الدهاء والذكاء، وكانت تتخللها روح الحكاية والمغامرة.

جاء عصر النهضة والأدب الواقعي لاحقًا، ليحدث نقلة نوعية في تصوير الشخصية. بدأ التركيز ينتقل من القيم الأسطورية والرمزية إلى رصد واقع الإنسان العادي، وتعرية مشاكله الاجتماعية والنفسية. في الأدب الأوروبي ظهرت أعمال واقعية تبرز حياة الطبقات البرجوازية والعمالية، مثل روايات تشارلز ديكنز وفيودور دوستويفسكي وليو تولستوي، حيث جرى تصوير الشخصيات في مواقفها الحياتية اليومية، مع الخوض في مشاعرها وهواجسها.

لاحقًا، مع بروز التيارات الحداثية وما بعدها، مثل المدرسة السريالية والوجودية والواقعية السحرية، أصبح بناء الشخصية أكثر تنوعًا. لم يعد الكاتب يكتفي بعرض سلوكيات الشخصيات في سياق اجتماعي صرف، بل انفتح على عوالم اللاوعي والتجارب الذاتية. برز في الأدب العربي الحديث أيضًا توجه نحو تعميق بناء الشخصية، وتجلّى ذلك في أعمال نجيب محفوظ، لا سيما في الثلاثية، حيث نجد شخصيات معقدة الطباع، تتداخل في حياتها الجوانب الاجتماعية والسياسية والنفسية.

تصنيف الشخصيات وفقًا لبعدها الدرامي

تنقسم الشخصيات عادة إلى عدة أنواع أساسية من حيث دورها في تصاعد الأحداث الدرامية ونوعية تفاعلها مع الحبكة. يمكن اختصار هذه التقسيمات في عدة محاور:

الشخصية الرئيسية (البطل/البطلة)

هذه الشخصية تمثّل المحور الذي تدور حوله معظم أحداث الرواية. يُعد البطل القوة الدافعة الأساسية للحبكة، سواء كان مستحوذًا على الصفات الإيجابية أو كان “بطلًا إشكاليًا” تكتنف تصرفاته جوانب سلبية. تتابع الرواية تطور هذه الشخصية وتأثرها بالصراعات المختلفة، وتتكون حولها شبكة العلاقات الدرامية.

الشخصية المناهضة (الخصم/العدو)

الخصم هو الجهة التي تقف في مواجهة البطل وتعترض طريقه نحو تحقيق أهدافه. لا يشترط أن يتسم بالقسوة دائمًا، فقد يحمل في بعض الأحيان مبادئ وأفكارًا يراها هو عادلة، ولكنها تصطدم بمبادئ البطل. يؤدي الخصم دورًا رئيسيًا في توليد الصراع الدرامي وتوتير الأحداث.

الشخصيات الثانوية أو المساعدة

هذه الفئة من الشخصيات تلعب دورًا تكميليًا في بناء العالم الروائي. قد تكون شخصيات داعمة للبطل أو محايدة أو تعمل في صالح العدو. وتتنوع مساهماتها في الأحداث بين تقديم المشورة، أو التسهيل، أو العرقلة، أو حتى إضفاء لمسات كوميدية أو تراجيدية. غالبًا ما تضيف أبعادًا إنسانية واجتماعية، وترسيخًا لواقعية النص.

الشخصيات العابرة أو الهامشية

تظهر هذه الشخصيات لفترات قصيرة أو ضمن سياقات محدودة في الرواية. قد تكون مجرد عناصر عابرة لتفسير موقف أو واقعة، وربما تكون هامشية من حيث دورها المباشر في تطور الحبكة، لكنها قد تكتسب قيمة رمزية، خاصة في الروايات التي تركّز على تصوير شرائح اجتماعية متعددة.

تصنيف الشخصيات وفقًا للعمق النفسي

يُشار في معظم الأبحاث النقدية إلى مفهوم “الشخصية المسطحة” و“الشخصية المدورة”، وهو تصنيف شهير يعود الفضل في توضيحه إلى الناقد الإنجليزي إدوارد مورغان فوستر (E. M. Forster) في كتابه الشهير Aspects of the Novel (جوانب الرواية). وقد أثّر هذا التصنيف على الأجيال اللاحقة من النقاد والكتّاب الذين اعتمدوه مقياسًا لجودة بناء الشخصيات.

الشخصية المسطحة (Flat Character)

تكون هذه الشخصية محدودة الأبعاد، غالبًا ما يُظهر الكاتب جانبًا أو جانبين من سماتها فقط، ولا تتغير بشكل ملحوظ على مدار الأحداث. يكون الهدف من وجودها هو تأدية وظيفة محددة في الحبكة أو تمثيل فكرة معيّنة، من دون التعمّق في دواخلها. تُعتبر هذه الشخصيات مفيدة لرسم بيئة الحدث، أو لإبراز سمات البطل عبر المقارنة.

الشخصية المدورة (Round Character)

على النقيض من الشخصية المسطحة، تتسم الشخصية المدورة بتعدد الأبعاد والسمات، وتتطور نفسيًا وسلوكيًا وفكريًا مع تقدّم الأحداث. هي شخصية قابلة للتغيّر والنمو، وقد تحمل في داخلها تناقضات وتحوّلات تدل على عمقها الإنساني. عادة ما يكون البطل في الروايات العميقة شخصية مدورة، وكذلك بعض الشخصيات المحورية الأخرى التي تتطلب حبكاتها تسليط الضوء على التحولات الداخلية.

تصنيف الشخصيات وفقًا للبعد التطوري

من بين التصنيفات المهمة في بنية الرواية، هناك تصنيف يعتمد على مدى تطور الشخصية من البداية إلى النهاية:

الشخصية الديناميكية (Dynamic Character)

هي الشخصية التي تخضع لتحول جذري أو تدريجي على مدى السرد. قد يكون هذا التحول على صعيد الأفكار أو القيم أو الطباع النفسية أو السلوك. أحيانًا ينتقل القارئ من رؤية شخصية مترددة وضعيفة إلى شخصية أكثر شجاعة وقوة، أو العكس. يبرز هذا النوع من الشخصيات في الأعمال التي تهتم برصد التطور السيكولوجي والاجتماعي للأفراد.

الشخصية الثابتة (Static Character)

الشخصية الثابتة لا يشهد القارئ فيها تغيرًا جوهريًا طوال الرواية، فتظل تحتفظ بخط نفسي وسلوكي واحد تقريبًا. ومع ذلك، لا يعني هذا أنها تفتقر إلى الأهمية؛ إذ قد تكون مثالًا للثبات والمبادئ، أو العناد، أو تمثل قوى محافظة على وضع اجتماعي أو فكري قائم.

تصنيف الشخصيات وفقًا للمنظور السردي

يتوقف بناء الشخصية في كثير من الأحيان على المنظور السردي أو الراوي الذي يقدّمها. قد تختلف صورة الشخصية لدى القارئ باختلاف من ينقل الأحداث. هنا تتبلور عدة أنماط:

الشخصية المتكلمة (Narrating Character)

هي الشخصية التي تأخذ دور الراوي في النص، فتحكي الأحداث من وجهة نظرها. يمكن لها أن تشارك في الأحداث بفعالية، أو أن تكتفي برواية ما يحدث للآخرين دون أن تتدخل. هذا الأسلوب في السرد يخلق أفقًا داخليًا لتجسيد المشاعر والأفكار، حيث يصبح القارئ شاهدًا مباشرًا على ما يدور في ذهن الشخصية.

الشخصية الغائبة المعروضة (Observed Character)

في هذه الحالة، لا يتحدث الراوي من داخل الشخصية بل ينقل أفعالها وأقوالها من الخارج. تشعر أن الكاتب/الراوي يصف الشخصية، أو يورد معلومات عامة عنها، أو يحلّل سلوكها وفقًا لرؤيته الشخصية. قد تبقى دواخلها النفسية غامضة، أو يُكشف عنها عبر الحوارات والتصرفات.

تصنيف الشخصيات وفقًا للدور الرمزي

تتجاوز بعض الشخصيات البعد الواقعي لتكتسب بعدًا رمزيًا، بحيث تمثل فكرة أو قيمة أخلاقية أو حالة إنسانية. من هنا ينشأ تصنيف آخر للشخصيات اعتمادًا على الدور الرمزي الذي تؤديه:

الشخصية المجازية (Symbolic Character)

تُجسد هذه الشخصية مبدأ أو حالة تمثّل أكثر من مجرد كونها كائنًا بشريًا. قد توحي دلالاتها برموز وطنية أو عقائدية أو إنسانية عامة. في الأدب العالمي، ثمة أمثلة بارزة كشخصية “فاوست” عند غوته، التي تحمل رمزية البحث الأبدي عن المعرفة والمعنى، أو شخصية “موبي ديك” للحوت الأبيض في رواية هيرمان ملفيل التي تحمل رمزية القوة الغامضة والطبيعة الجبارة.

الشخصية الأسطورية أو الخارقة

قد تستعير الروايات الحديثة أو الخيالية شخصيات من الأساطير القديمة، أو تضفي عليها طابعًا خارقًا. هذا يضيف أبعادًا ميثولوجية أو فانتازية على النص. لا تكون هذه الشخصيات بالضرورة مقنعة واقعيًا، لكنها تضفي عمقًا رمزيًا، وتفتح المجال أمام تفسير دلالات عميقة ترتبط بالصراع بين الخير والشر، والعقل والخرافة.

العلاقات بين الشخصيات وأثرها في ترابط النص

العلاقات المتشابكة بين الشخصيات هي الخيط الدقيق الذي يربط عناصر الرواية ببعضها. تتألف هذه العلاقات غالبًا من:

• علاقة التضاد: بين البطل والخصم أو بين الشخصيات التي تحمل وجهات نظر متناقضة.
• علاقة التحالف: بين الشخصيات التي تشترك في مصلحة أو هدف معين.
• علاقة التكامل: حيث يكمل بعضهم الآخر من الناحية النفسية أو المهارية.
• علاقات أسرية أو اجتماعية: تركز على الأدوار التقليدية كالوالدين والأبناء، أو المحبة والصداقة والزمالة.
• علاقة التنافر الداخلي: قد تنشأ داخل الشخصية نفسها في صورة صراع داخلي بين مبادئها ورغباتها.

تنعكس هذه العلاقات على مسار الأحداث، وتمنح الرواية تماسكًا وتجانسًا، خاصة إذا تم صياغتها بمهارة فنية تنسجم مع منطق الشخصيات ومحددات عالمها. ولا تُعد العلاقات قاصرة على التفاعل السطحي؛ بل تشمل التأثر والتأثير على مستوى العمق النفسي، ما يجعلها أساسًا للتحولات المتعددة في بنية النص.

الجوانب النفسية في بناء الشخصية

يُعد الجانب النفسي للشخصية من أكثر العناصر إلحاحًا وتعقيدًا لدى الروائيين. فهو يضفي على الشخصية أبعادًا واقعية تحاكي التجربة الإنسانية. ويعتمد بناء البعد النفسي على عدة عناصر:

• الدوافع: الرغبات والأهداف التي تحرّك الشخصية وتعطيها طاقة الحركة في الحبكة.
• الصراعات الداخلية: قد تتمحور حول القيم والمبادئ، مثل الصراع بين الواجب والرغبة، أو الصراع مع مخاوف وأوهام داخلية.
• الذكريات والطفولة: كثيرًا ما يلجأ الكتّاب إلى خلق خلفية للشخصية (Flashbacks) لتفسير مواقفها ودوافعها الحالية.
• التطور التدريجي: الشخصيات ذات البعد النفسي العميق لا تتغير فجأة من حال إلى حال، بل تمر بمراحل نمو ونضج نفسي، يتناغم مع الأحداث التي تعيشها.
• النهايات المفتوحة أو المغلقة: بعض الروايات تترك الباب مواربًا أمام تطور سيكولوجي لاحق للشخصية، بينما تكتفي روايات أخرى بإغلاق جميع المسارات النفسية للشخصية بنهاية محددة.

تقنيات وصف الشخصيات: المباشرة وغير المباشرة

تتيح تقنيات السرد للكاتب تقديم الشخصيات إما بشكل مباشر أو غير مباشر. وهو ما يؤثر في تلقي القارئ وانطباعه الأولي عن الشخصيات، فضلاً عن رسم ملامحها النفسية والاجتماعية.

التقنية المباشرة

يقدّم الكاتب فيها وصفًا صريحًا حول سمات الشخصية، مثل المظهر الخارجي أو الصفات النفسية. على سبيل المثال: “كان فلان يتمتع بذكاء حاد وثقة مفرطة بنفسه.” هذه الطريقة تضع القارئ أمام حقائق واضحة دون الحاجة إلى تفسير. يستخدمها بعض الروائيين عند الحاجة إلى تعريف سريع بجوانب الشخصية الأساسية، خاصة في الروايات الكلاسيكية.

التقنية غير المباشرة

تُعرَف أيضًا بتقنية “الإظهار” (Show) بدلًا من “الإخبار” (Tell). لا يُقدم الكاتب للشخصية بتصريحات مباشرة، وإنما يرسمها عبر حواراتها مع الآخرين، أو تصرفاتها في مواقف معيّنة، أو من خلال تفاعلاتها مع البيئة المحيطة. يكتشف القارئ صفات الشخصية بالتدريج، ما يضفي حيوية وغموضًا وإثارة على عملية القراءة.

الشخصيات النسائية في الرواية

يشهد الأدب العالمي والعربي تطورًا ملحوظًا في تناول الشخصيات النسائية. تحولت الشخصيات النسائية من مجرد أدوار سطحية (جميلة، طائعة، ربة منزل) إلى شخصيات رئيسية تحمل رؤى خاصة للعالم، وتعيش صراعاتها الداخلية والخارجية. في الأدب العربي على سبيل المثال، نجد أمثلة بارزة مثل شخصية “حميدة” في رواية زقاق المدق لنجيب محفوظ، التي تمثل رمزًا لصراع الأنثى في بيئة شعبية، بين الطموح والانغلاق الاجتماعي. كما ظهرت شخصيات أخرى تعكس تحديات المرأة المعاصرة، مثل الشخصيات الأنثوية في روايات أحلام مستغانمي، إذ تحمل أبعادًا تحررية وطموحات متباينة.

توسع دور المرأة في الرواية بالتركيز على جوانبها النفسية والاجتماعية والتحولات التي تعيشها. لم تعد شخصية المرأة عنصرًا ثانويًا أو داعمًا للبطل الذكر، بل صارت في كثير من الحالات هي محور الأحداث والصراعات. تبقى دراسة هذه الشخصيات وإبراز أبعادها مؤشرًا على مدى تقدّم المجتمع الأدبي والثقافي في تصوير قضايا المرأة.

الشخصيات الطفولية في الرواية

للطفولة حضور استثنائي في بعض الروايات التي تُعنى برصد النشأة المبكرة للبطل، أو تسليط الضوء على تجارب الطفولة وتأثيرها. شخصية الطفل الروائية غالبًا ما تتسم بالبراءة والخيال الواسع، وقد تتيح للكاتب مناقشة قضايا اجتماعية أو إنسانية بمنظور خالٍ من الأحكام المسبقة. في كثير من الأحيان، تحتل هذه الشخصيات دورًا ركيزيًا في الرواية، فتقدّم رؤية ناقدة للمجتمع من خلال عيون البراءة.

من جانب آخر، يمكن أن تعكس شخصيات الأطفال صورة من التحول، حيث يمر الطفل بتجارب تكسبه نضجًا مبكرًا، أو تصدمه بواقع قاسٍ. هذه النوعية من الشخصيات تفتح آفاقًا كبيرة في التحليل النفسي، إذ تبرز الصراع بين الحلم والواقع.

الشخصيات التاريخية في الرواية

تُشكّل الروايات التاريخية حقلًا خاصًا في الأدب، حيث يُجسّد الكاتب شخصيات حقيقية عاشت في الماضي، أو يستلهم شخصيات خيالية يدمجها في سياق تاريخي حقيقي. تبني هذه الروايات عالمها في ضوء الحقائق والوقائع التاريخية، ولكنها تُضفي عليها لمسة إبداعية. في هذه الحالة، يجد الكاتب نفسه ملتزمًا بالمواءمة بين الدقة التاريخية ومتطلبات السرد الفني.

غالبًا ما تحتل الشخصيات التاريخية مساحة واسعة من التحليل، إذ يسعى الكاتب إلى كشف الدوافع والأحداث التي قادت الشخصيات التاريخية إلى اتخاذ قرارات مفصلية غيرت مجرى التاريخ. كما يستنطق العمل الفني أسرارًا قد لا ترد صراحة في المصادر التاريخية، فيلجأ إلى الخيال لتعبئة الفجوات المحتملة. من أمثلة ذلك روايات جورج زيدان في الأدب العربي، التي تحمل أبعادًا تاريخية وتعطي مساحة لإعادة تصور الشخصيات ضمن سياق خيالي مبني على مرجعيات واقعية.

الشخصيات ذات الأبعاد الأسطورية والخيالية

في أدب الخيال العلمي أو الفانتازيا، نجد عالمًا رحبًا للشخصيات الخارقة أو الكائنات الغريبة. هنا يأخذ الكاتب حريته في تشكيل عناصر الهوية والقدرات الخارقة، فتظهر شخصيات تمثل رموزًا لفلسفات إنسانية، أو تجسّد مخاوف بشرية على هيئة وحوش ومخلوقات غامضة. تضيف هذه الشخصيات بعدًا استثنائيًا للنص، وتفتح المجال أمام القارئ للهروب من الواقع إلى عوالم جديدة مليئة بالدهشة.

إلى جانب ذلك، قد يختلط العنصر الأسطوري بالواقع في أعمال الواقعية السحرية، حيث نجد شخصيات تعيش في عالم يبدو واقعيًا لكن بعض الأحداث أو القدرات تكتسي طابعًا خارقًا. هذا المزج يولّد نصوصًا غنية بالتأويلات الرمزية، ويخلق فضاءً لمناقشة قضايا إنسانية واجتماعية من منظور ميتافيزيقي، كما هو الحال في روايات غابرييل غارسيا ماركيز، أو أعمال بعض الروائيين العرب المعاصرين الذين استلهموا هذا التيار.

الشخصيات الذاتية (الاعترافية) في الرواية

هناك نوع من الروايات يغوص في أعماق شخصية واحدة تُدعى “الرواية الاعترافية”. يكتب المؤلف غالبًا بضمير المتكلم، موظفًا سيرته الذاتية أو تجاربه الحياتية؛ فيرسم شخصية متفرّدة تشاركنا أفكارها ورؤيتها للعالم. هذا اللون الروائي يكشف عن أبعاد النفس الإنسانية في لحظات القوة والضعف، مما يمكّن القارئ من الاقتراب الشديد من وجدان الشخصية وخفاياها.

يولي هذا النوع اهتمامًا بالغًا بالمونولوج الداخلي، ويسعى إلى سبر أغوار الوعي واللاوعي، وإبراز تفاصيل الحياة اليومية، فيتحول النص إلى مذكرات موسعة لشخصية قد تكون المؤلف نفسه أو قريبة منه في السياق النفسي والاجتماعي. بفضل هذه السردية الاعترافية، تبرز قضايا حميمية وانفعالات ذاتية تمثل جوهر الإنسان في تشابكاته العاطفية والفكرية.

العوامل المؤثرة في رسم الشخصيات

عند التطرق إلى موضوع الشخصيات الروائية، من الضروري الإشارة إلى العوامل المتعددة التي تسهم في تشكيلها:

• رؤية الكاتب وأيديولوجيته: تتشكل ملامح الشخصيات أحيانًا لتعكس أفكار المؤلف أو مواقفه السياسية والاجتماعية.
• نوع الرواية: تختلف ملامح الشخصيات باختلاف تصنيف العمل الأدبي، سواء كان تاريخيًا، بوليسيًا، رومانسيًا، اجتماعيًا، أو خيالًا علميًا.
• الجمهور المستهدف: أسلوب الكاتب في رسم الشخصية يتأثر أيضًا بالفئة القرائية التي يتوجّه إليها، فشخصيات أدب الناشئة تختلف عن شخصيات الأدب الموجه للنخبة.
• البيئة الثقافية والتاريخية: تستوحي الروايات المحلية شخصياتها من واقع المجتمع، بينما قد تعتمد الروايات العالمية على سمات كونية تتجاوز الحدود الجغرافية.

جدول يلخّص أهم الأنواع والسمات

نوع الشخصية	الوصف العام	أمثلة	الرمزية/الدور
رئيسية	تتمحور حولها الحبكة والأحداث	البطل في رواية “البؤساء” (جان فالجان)	تقود مسار الرواية وتمثّل قيمًا معينة
مناهضة	تقف في مواجهة البطل وتؤجج الصراع	كومودوس في “المصارع” (رغم أنه فيلم، لكنه مثال درامي واضح)	تخلق التوتر الدرامي وتعكس وجهة نظر مختلفة
مساعدة/ثانوية	تكمّل الأحداث وتدعم تطور الحبكة	الشخصيات المرافقة للبطل في “دون كيخوتي” مثل سانشو بانزا	تمنح الواقع السردي تفاصيل وحيوية
عابرة/هامشية	تظهر لفترات قصيرة أو بأدوار محدودة	الشخصيات العابرة في المحطات والمقاهي	تضيف للجو العام وتفسر أحداثًا صغيرة
مسطحة	ذات بعد واحد أو سمات قليلة	“ملاقيط” الحبكة البسيطة كما في الأدب الشعبي	لتوضيح جانب محدد أو فكرة بسيطة
مدورة	متعددة الأبعاد وتتطور نفسيًا	راسكلنيكوف في “الجريمة والعقاب”	تعكس الإنسانية المعقدة والتحول الداخلي
ديناميكية	تتغير وتتطور خلال الأحداث	إيما بوفاري في “مدام بوفاري”	تصوّر الصراعات الداخلية ونتائجها
ثابتة	لا تتغير جوهريًا أثناء الرواية	بعض الشخصيات الثانوية التي تحتفظ بسماتها	تمثّل الثبات والقيم الراسخة أو العناد
رمزية/أسطورية	تجسّد فكرة أو قيمة أكبر من ذاتها	شخصيات الأساطير الإغريقية	تعطي النص عمقًا فلسفيًا أو ميثولوجيًا

أنماط سردية تؤثر في بناء الشخصية

لا ينفصل بناء الشخصية عن الأسلوب السردي المستخدم في الرواية، إذ يتفاعل الاثنان بشكل وثيق. على سبيل المثال، يختلف تصوير الشخصية باختلاف التقنيات التالية:

• السرد بضمير المتكلم: يتيح للشخصية رواية الأحداث بمنظورها الخاص، ويمنح القارئ فرصة التواصل المباشر مع أفكارها.
• السرد بضمير الغائب (المحدود): تكون الرؤية محدودة على بطل أو بطلة، فيعرف القارئ ما تفكر به هذه الشخصية تحديدًا دون غيرها.
• السرد بضمير الغائب (الكلي): الراوي يعرف كل شيء عن الشخصيات والأحداث، ويقدم تحليلات وتفسيرات لا يعرفها أبطال النص.
• تقنية المونولوج الداخلي: تعرض الحياة الداخلية للشخصية عبر تيار الوعي (Stream of Consciousness)، مما يبرز مشاعرها وآرائها بشكل عميق.
• تنوع زوايا النظر: بعض الروايات تستخدم عدة رواة، أو تبدل زاوية النظر، مما يجعل القارئ يتعرف على الشخصية من أكثر من منظور.

تأثير المكان والزمان في رسم الشخصيات

لا يمكن إغفال دور المكان والزمان في تشكّل الشخصيات. فالشخصيات في بيئة ريفية، على سبيل المثال، تختلف جذريًا عن تلك التي تعيش في مدينة مزدحمة. يظهر هذا التأثير في اللغة التي تنطق بها الشخصية، وفي العادات والقيم التي تشكل هويتها. كذلك ينعكس عامل الزمن إذا كانت الرواية تدور في الماضي البعيد أو في المستقبل التخييلي، حيث تختلف أولويات الشخصيات ودوافعها وقواعدها الأخلاقية.

من جهة أخرى، يؤثر المكان في تشكيل العوائق والمحفزات التي تواجه الشخصيات. في روايات المدن الكبرى، قد تجد الشخصية ذاتها في صراع مع الاغتراب والضياع، بينما تعيش شخصية أخرى في قرية صغيرة صراعًا مختلفًا مرتبطًا بالقيود الاجتماعية والحفاظ على التقاليد. بالمثل، قد يكون الزمن (كفترة الحرب العالمية أو فترة الثورات) مؤشرًا مؤثرًا على اختيارات الشخصية ومشاعرها.

التشابك بين الشخصيات والحوارات

الحوار من أهم الأساليب الفنية في الرواية لكشف طبائع الشخصيات وتفاعلاتها. عندما تتحدث الشخصيات مع بعضها، تظهر مواقفها وسماتها بوضوح. تختلف أساليب الحوار باختلاف خلفية الشخصيات وثقافتها وعواطفها. في الروايات الواقعية، تميل الحوارات إلى لغة قريبة من الحياة اليومية. بينما قد تكون الحوارات في الروايات الفانتازية مشبّعة بلغة شاعريّة أو أسطورية.

يمثّل الحوار أيضًا مساحة للصراع الفكري والنفسي، حيث يواجه القارئ جدليات مختلفة تخص الحب والحرية والسلطة والقيم. لذلك، فإن كتابة الحوار تتطلب من المؤلف وعيًا كبيرًا بفروق الشخصيات. الحوار المتقن يكشف عن هويتهم واتجاهاتهم، ويقود الحبكة نحو مزيد من التشويق.

أمثلة تطبيقية من الرواية العربية

تتميز الرواية العربية الحديثة بثراء كبير في أنماط الشخصيات. على سبيل المثال، نجد في أعمال نجيب محفوظ شخصيات متعددة تمثّل مختلف الطبقات الاجتماعية في القاهرة. يظهر ذلك جليًا في ثلاثية “بين القصرين” و“قصر الشوق” و“السكرية”، حيث تتطور الشخصيات عبر مراحل تاريخية واجتماعية متعاقبة، فتكتسب عمقًا وتجسيدًا حيًا للواقع المصري في النصف الأول من القرن العشرين.

في روايات غسان كنفاني، مثل “رجال في الشمس” و“عائد إلى حيفا”، نجد شخصيات لا تمثل مجرد أفراد منعزلين، بل تكوينات نفسية متأثرة بقضية الاغتراب والتهجير والانتماء. تبرز أبعاد هذه الشخصيات من خلال صراعاتها مع الواقع السياسي والاجتماعي، لتصبح رمزًا لمعاناة جماعية.

كما تقدم رجاء عالم في رواياتها نماذج نسائية سعودية تواجه تحديات اجتماعية وثقافية، مركّزة على التحولات التي تمر بها الشخصية في ظل بيئة محافظة. وفي أعمال إبراهيم نصر الله، وخاصة في مشروعه الروائي حول الملهاة الفلسطينية، تظهر شخصيات متعددة تتصارع مع أحداث شديدة التعقيد، وكل شخصية تساهم في رسم ملامح الهوية الوطنية والاجتماعية.

القراءة التحليلية للشخصيات

تحليل الشخصيات هو العملية التي يقوم بها الناقد أو القارئ المتمعن لاكتشاف الدوافع والرموز والأبعاد المختلفة للشخصية. تعتمد هذه العملية على:

• تحليل البنية السردية: فحص مكانة الشخصية في هيكل الرواية، ومدى ارتباطها بالحبكة.
• المقارنة بين الشخصيات: قد يبرز هذا المقارنة مدى اختلاف الأهداف والقيم، ويسلط الضوء على الصراعات المحتملة.
• ربط الشخصية بسياقها التاريخي والاجتماعي: فهم الظروف التي نشأت فيها الشخصية وكيف أثرت على رؤيتها للعالم.
• تفسير الرموز: إذا كانت الشخصية رمزية، ينبغي تفكيك الدلالات الكامنة وراءها.
• استخدام النظريات النفسية: بعض النقاد يستعينون بنظريات علم النفس (مثل نظرية التحليل النفسي لفرويد أو أدلر أو يونغ) لتفسير دوافع الشخصيات.

مقاييس جودة بناء الشخصيات

ثمة معايير تساعد في الحكم على مدى نجاح الكاتب في صياغة الشخصيات، ومن أبرزها:

• التناسق الداخلي: مدى محافظة الشخصية على منطق داخلي يتسق مع سماتها المعلنة وتصرفاتها.
• التطور المقنع: إذا كانت الشخصية ديناميكية، يجب أن تكون التغيرات في شخصيتها مبررة ومتصلة بأحداث الرواية.
• الواقعية/الرمزية: حتى لو كانت الشخصية رمزية أو أسطورية، ينبغي أن تنسجم مع عالم الرواية وقوانينه.
• التفرّد: تميّز الشخصية عن الشخصيات الأخرى وعدم تكرار النماذج التقليدية على نحو سطحي.
• التأثير في القارئ: قدرة الشخصية على إثارة مشاعر القارئ أو اهتمامه الفكري.

التقنيات النفسية والشخصيات متعددة الأصوات

هناك روايات تعتمد على تعدد الأصوات السردية (Polyphonic Novels)، وهو مفهوم تطرق إليه ميخائيل باختين في نقده لأعمال فيودور دوستويفسكي. في هذا النمط، لا تخضع الشخصيات لصوت سردي واحد مهيمن، بل تعبّر كل شخصية عن رؤيتها الخاصة للعالم، وتتمتع باستقلالية شبه تامة في تشكيل خطابها الداخلي. الأمر الذي يجعل الرواية تعددية الأصوات غنية جدًا بتباين الشخصيات، حيث تتعارض أفكارهم وتطلعاتهم ومفاهيمهم الأخلاقية.

هذا النمط يعكس واقع التعدد في المجتمعات الحديثة، ويتيح للقارئ تكوين صورة بانورامية عن الأحداث والصراعات. في مثل هذه الروايات، لا توجد حقيقة مطلقة، بل تتعدد الحقائق بتعدد الشخصيات ووجهات النظر. بالتالي، يشكّل تعدد الأصوات السردية أحد المفاتيح الرئيسية لفهم التركيبة النفسية للشخصيات، إذ يجبر القارئ على الانغماس في داخليّة كل منها على حدة.

أثر الشخصيات في رسالة الرواية

الرواية ليست مجرد حكاية مسلية، بل يمكن أن تكون وسيطًا ثقافيًا ومعرفيًا يعكس وجهة نظر المؤلف حول قضايا مصيرية متنوعة. وهنا يأتي دور الشخصيات في بلورة تلك الرسالة. من خلال الشخصيات، يتمكن المؤلف من طرح رؤيته نحو الوجود، والحرية، والعدالة الاجتماعية، والهوية، وغيرها.

في بعض الروايات، قد تتحوّل شخصية معينة إلى “مَعبر” يُعبّر المؤلف من خلاله عن رؤيته الفلسفية (Spokesperson). يُطلق على هذه الظاهرة أحيانًا مصطلح “الأنا الآخر” للكاتب. لكن من المهم ألا يتحول النص إلى دعاية مباشرة لأفكار المؤلف؛ إذ يبقى الإبداع الروائي في قدرته على إقناع القارئ بفلسفة ما من خلال حبكة شيقة وشخصيات حية. كلما كانت الشخصيات أكثر واقعية أو رمزية متقنة، زادت احتمالية أن يتأثر القارئ بالرسائل الكامنة.

الشخصيات في الرواية البوليسية والإثارة

تُعد الرواية البوليسية أو رواية الإثارة (Thriller) نوعًا أدبيًا يتطلب مواصفات محددة للشخصيات. يتمحور هذا النوع عادة حول شخصية المحقق أو المحققة، والذي يستخدم الذكاء والمهارات التحليلية لكشف الجرائم. كما تبرز شخصيات أخرى مثل المشتبه بهم، والضحية، والمجرم، وكل منهم يحمل دوافع مختلفة. يقود الصراع الدرامي في هذا النوع من الروايات إلى توتر وتشويق عاليين.

في الروايات البوليسية المُتقنة، تأتي الشخصيات معقدة، وليست مجرد وسائل لتقديم الألغاز وحلها. فمن الممكن أن يكون المجرم شخصية ذات خلفية تبرر دوافعه، أو يحمل نزاعات داخلية. كذلك قد يكون المحقق شخصية تحمل جراحًا نفسية، تجعل عملية التحقيق صراعًا بين الذات والقضية التي بين يديه. بهذه الطريقة، تتحول الرواية البوليسية إلى فضاء ثري لاستكشاف الطبيعة البشرية في أقصى درجات التوتر.

الشخصيات في الأدب التفاعلي والرقمي

مع تقدم التكنولوجيا وظهور الأدب التفاعلي (Interactive Fiction) والألعاب الإلكترونية القصصية، برز شكل جديد من الشخصيات. لم يعد دور الشخصيات مقتصرًا على النص المكتوب، بل يمكن للقارئ أو اللاعب أن يتخذ قرارات تؤثر في مسار الشخصية وأحداث القصة. يخلق هذا النوع من الأدب تجربة تفاعلية، حيث تتغير شخصية البطل بحسب اختيارات المستخدم.

هذا التطور التقني يوسّع مفهوم الشخصية الروائية إلى آفاق لم تكن معهودة من قبل. إذ لم يعد شكل الشخصية ومحطات تطورها حتميًا، بل يصبح “مرنًا” مرتبطًا بالمشاركة والتجربة الفردية للقارئ-اللاعب. فتح ذلك مجالات جديدة للأبحاث النقدية التي تدرس الحدود بين الأدب والألعاب، وتأثير التفاعلية في بناء الشخصيات.

الشخصية والأبعاد الصوتية والحركية (في الرواية الدرامية والمسرح)

بالرغم من أن المسرح نص مكتوب يتضمن شخصيات، إلا أن تحوّله إلى أداء حي يجعل الشخصية محورًا بصريًا وسمعيًا. في المسرح الدرامي، تُترجم الكلمات المكتوبة في النص إلى لغة جسد وأصوات وأداء الممثل. هذا يحوّل المنطوق والمكتوب إلى حزمة متكاملة من المؤثرات التي تصل إلى الجمهور. بالتالي تتعمّق أبعاد الشخصية؛ إذ تراها وتسمعها على خشبة المسرح، لا تقرأ عنها فحسب.

في هذا السياق، تتحدد ملامح الشخصية أيضًا حسب الأداء المسرحي والإخراج، فقد يختار المخرج تسليط الضوء على جانب معين من الشخصية وتهوين جانب آخر، كما تؤثّر الموسيقى والإضاءة والديكور في تكوين الانطباع الأخير عن الشخصية. لذا فالشخصية المسرحية متغيرة وفق زاوية الإخراج والتمثيل، خلافًا للشخصية الروائية الثابتة نسبيًا في نصها.

مستقبل الدراسات النقدية للشخصيات الروائية

تشهد الدراسات النقدية المعاصرة ميلًا نحو منحى متعدد التخصصات يجمع بين الأدب وعلم النفس والأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا. تصب هذه الدراسات في خانة تعميق فهم القارئ والناقد للشخصيات الروائية، من خلال أدوات بحثية جديدة. مثلًا، يجري بعض الباحثين مقارنات بين الشخصيات الروائية وشخصيات حقيقية في علم الاجتماع، أو يوظفون تقنيات تحليل البيانات الضخمة لاستخلاص أنماط متكررة في بناء الشخصيات.

يبدو المستقبل واعدًا بمزيد من الطروحات المتقدمة حول الشخصية، خاصة مع بروز قضايا العولمة، والهجرة، والهوية الرقمية، وتحديات الذكاء الاصطناعي. كل هذه التحولات تنعكس على طبيعة بناء الشخصيات وتفاعلها مع عالمها. قد نرى المزيد من الشخصيات الإلكترونية أو السيبرانية التي تخوض صراعًا بين الطبيعة التقنية والإنسانية، مما يفتح آفاقًا إبداعية جديدة للأدباء والنقاد.

منهجية مقترحة لتحليل الشخصية الروائية

يمكن اعتماد منهجية شاملة لتحليل الشخصية في أي رواية، تتضمن الخطوات التالية:

1. قراءة النص بعناية: تُمثّل القراءة الدقيقة أساسًا لفهم جميع التفاصيل المتعلقة بالشخصية، من وصف خارجي وحوارات وأحداث مهمة.
2. تحديد المعالم الأساسية للشخصية: السمات العامة والدوافع والأهداف، إضافة إلى العلاقات مع بقية الشخصيات.
3. فحص السياق التاريخي والاجتماعي: معرفة الحقبة الزمنية والمكان والثقافة السائدة تؤثر في تفسير سلوك الشخصية وتصورها للعالم.
4. تحليل الصراع الداخلي والخارجي: التطرق إلى نقاط الضعف والقوة والصراعات التي تواجه الشخصية، سواء مع ذاتها أو مع الآخرين.
5. استخراج الرمزية والدلالات: محاولة فهم ما إذا كانت الشخصية تحمل أبعادًا رمزية تتعلق بقضايا إنسانية أو فلسفية.
6. المقارنة مع شخصيات أخرى: ربط الشخصية المدروسة بشخصيات أخرى في النص، لاكتشاف الفروق أو أوجه التشابه.
7. تقييم التحولات: النظر في مدى تطور الشخصية أو ثباتها على مدى الأحداث، ومدى منطقية هذا التحول أو الثبات.
8. استخلاص النتائج: تلخيص أهم الاستنتاجات حول دور الشخصية في الرواية ورسالتها الفنية والفكرية.

 

المزيد من المعلومات

الخلاصة

مصادر ومراجع

1. Forster, E. M. Aspects of the Novel. Harcourt, 1927.
2. Aristotle. Poetics. Translated by S. H. Butcher, Macmillan, 1902.
3. Bakhtin, Mikhail. Problems of Dostoevsky’s Poetics. University of Minnesota Press, 1984.
4. غالي شكري. المنهج النفسي في النقد الأدبي. دار الفكر العربي، 1981.
5. تحليل نماذج روائية لنجيب محفوظ في: علّام، حسين. نجيب محفوظ وتجديد الرواية العربية. دار الشروق، 1993.
6. إدوار الخراط. النص الأدبي: قراءات معاصرة. الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2000.
7. شوقي ضيف. تطور الرواية العربية الحديثة. دار المعارف، 1973.
8. لوكاتش، جورج. نظرية الرواية. ترجمة غازي انعام محمد، منشورات الجمل، 2017.

مصادر بحث