التسمم بالحديد: الأسباب، الأعراض، التشخيص، والعلاج

الحديد عنصر أساسي للحياة وله دور حيوي في العديد من الوظائف البيولوجية داخل الجسم، مثل نقل الأكسجين عبر الهيموغلوبين وتخزينه في الميوغلوبين، بالإضافة إلى دوره في نشاط العديد من الإنزيمات. رغم أهميته الكبيرة، يمكن أن يتحول الحديد إلى مادة سامة إذا تراكم بكمية زائدة داخل الجسم، مما يؤدي إلى حالة تسمى التسمم بالحديد أو تسمم الحديد (Iron Poisoning). هذه الحالة قد تكون مهددة للحياة وتتطلب تدخلاً طبياً فورياً.

مقدمة عن التسمم بالحديد

يحدث التسمم بالحديد عندما يزيد تركيز الحديد في الجسم عن المستويات الطبيعية، وهو أمر شائع الحدوث نتيجة تناول جرعات كبيرة من مكملات الحديد، سواء عن طريق الخطأ أو تعمداً، وخاصة بين الأطفال الصغار الذين قد يبتلعون حبوب الحديد دون وعي. كما يمكن أن يحدث التسمم نتيجة حالات طبية أخرى مثل النزيف المزمن أو فشل الكبد، لكن أكثر الأسباب شيوعاً هو التناول الحاد لمكملات الحديد.

الحديد الزائد يسبب تسمماً على مستوى الخلايا والأنسجة، خصوصاً في الكبد، القلب، والجهاز العصبي المركزي، مما يؤدي إلى اضطرابات وظيفية خطيرة قد تصل إلى الوفاة.

أسباب التسمم بالحديد

1. تناول جرعات زائدة من مكملات الحديد

الأكثر شيوعاً هو تناول جرعة زائدة عن طريق الخطأ، خصوصاً من قبل الأطفال الذين قد يخلطون بين حبوب الحديد والحلوى. تتوفر مكملات الحديد بأشكال متعددة منها حبوب، كبسولات، شراب، وبعض الأدوية المركبة التي تحتوي على الحديد، ما يزيد من خطر التسمم في حال تناولها بجرعات غير مراقبة.

2. الجرعة العلاجية الزائدة

في حالات فقر الدم الشديد أو الأمراض التي تستدعي تعويض نقص الحديد، قد يتم وصف مكملات الحديد بجرعات عالية لفترة طويلة، مما قد يؤدي إلى تراكم الحديد في الجسم، خاصة عند المرضى الذين يعانون من ضعف في آليات التخلص من الحديد.

3. الأمراض المزمنة المرتبطة بامتصاص الحديد

بعض الأمراض مثل داء ترسب الأصبغة الدموية (Hemochromatosis) تجعل الجسم يمتص الحديد من الغذاء بشكل مفرط، مما يؤدي إلى تراكم الحديد وتسممه.

4. نقل الدم المتكرر

المرضى الذين يخضعون لنقل دم متكرر، مثل مرضى الثلاسيميا، معرضون لزيادة مخاطر التسمم بالحديد نتيجة تراكم الحديد من كريات الدم الحمراء المدمجة.

آلية التسمم وتأثير الحديد الزائد على الجسم

عند تناول كميات كبيرة من الحديد، يتجاوز الحديد قدرة البروتينات الناقلة والمخزنة مثل الفيريتين والهابسيدين، فيبقى الحديد الحر في الدم. الحديد الحر يُحفز إنتاج أنواع الأكسجين التفاعلية (Reactive Oxygen Species)، التي تسبب تلفًا كبيرًا في خلايا الأعضاء الحيوية مثل الكبد، القلب، والكلى. هذا التلف ينتج عنه التهاب خلوي، تليف أنسجة، وعجز وظيفي قد يكون مميتًا.

الأعراض السريرية للتسمم بالحديد

تختلف الأعراض باختلاف كمية الحديد التي تم تناولها ومدة التعرض لها، لكنها تتطور في مراحل زمنية محددة:

المرحلة الأولى (0-6 ساعات بعد التسمم):

• غثيان شديد.

• قيء متكرر.

• آلام بالبطن وتشنجات معوية.

• إسهال قد يكون دموياً.

• هبوط عام في الحالة الصحية مع تشوش ودوار.

المرحلة الثانية (6-24 ساعة):

تبدو الأعراض وكأنها تحسنت مع تراجع القيء والإسهال، لكن في الحقيقة هذه المرحلة تمثل بداية الضرر الخفي للأعضاء الداخلية.

المرحلة الثالثة (12-48 ساعة):

تبدأ علامات الفشل الكبدي والكلى بالظهور مثل:

• اصفرار الجلد وبياض العين (يرقان).

• ألم في الجزء العلوي من البطن.

• تغير في مستوى الوعي.

• تورم وانتفاخ في البطن.

• انخفاض ضغط الدم، تسارع ضربات القلب.

المرحلة الرابعة (بعد 48 ساعة):

تتطور مضاعفات التسمم لتشمل:

• فشل كبدي حاد.

• فشل كلوي.

• اضطرابات نظم القلب.

• صدمة وإغماء قد تؤدي إلى الوفاة إذا لم يعالج التسمم سريعاً.

تشخيص التسمم بالحديد

التشخيص يعتمد على:

1. التاريخ المرضي

• معرفة كمية الحديد التي تم تناولها ووقت التناول.

• وجود أعراض مشابهة مع تأكيد تناول مكملات الحديد.

2. الفحص السريري

• تقييم الحالة العامة للمريض، درجة الوعي، العلامات الحيوية.

• فحص الجلد والعيون للكشف عن اليرقان.

• فحص البطن لمعرفة وجود ألم أو انتفاخ.

3. الفحوصات المختبرية

• قياس مستوى الحديد في الدم (Serum Iron).

• قياس الفيريتين (Ferritin) كمؤشر على مخزون الحديد.

• تحليل وظائف الكبد (AST, ALT, Bilirubin).

• وظائف الكلى (الكرياتينين، اليوريا).

• تعداد الدم الكامل.

• تحاليل إضافية مثل غازات الدم والشوارد.

4. تصوير الأشعة

• في بعض الحالات يمكن تصوير البطن بالأشعة السينية للبحث عن وجود حبوب الحديد في المعدة أو الأمعاء.

العلاج والإسعافات الأولية

التعامل مع التسمم بالحديد يتطلب سرعة ودقة، ويتضمن الخطوات التالية:

1. الإسعافات الأولية

• التوقف عن تناول الحديد فوراً.

• غسل المعدة (تجويف المعدة) إذا كان التناول حديثاً (في خلال ساعة إلى ساعتين).

• إعطاء الفحم النشط ليس فعالاً في التسمم بالحديد لأن الحديد لا يرتبط به جيداً.

2. العلاج الدوائي

• مضادات التسمم بالحديد (Chelation Therapy): أهم خطوة في علاج التسمم هي استخدام أدوية مرتبطة بالحديد (Chelators) لتقليل سمية الحديد في الجسم. الأدوية المستخدمة شائعة هي:

  • Deferoxamine: يُعطى عن طريق الوريد أو العضل، ويعمل على ربط الحديد الحر وتحويله إلى مركب قابل للطرد مع البول أو العرق.

  • أدوية أخرى مثل Deferasirox وDeferiprone تُستخدم في حالات التسمم المزمن، لكنها أقل شيوعاً في حالات التسمم الحاد.

3. الدعم الطبي

• مراقبة مستمرة للوظائف الحيوية.

• علاج المضاعفات مثل الصدمة أو الفشل الكبدي.

• علاج اضطرابات نظم القلب.

• دعم التنفس إذا استدعى الأمر.

4. التدخل الجراحي

• في حالات نادرة قد يُستخدم التنظير لإزالة حبوب الحديد غير المهضومة من المعدة.

مضاعفات التسمم بالحديد

إذا لم يتم علاج التسمم بالحديد بشكل فعال وفي الوقت المناسب، قد تؤدي الحالة إلى مضاعفات خطيرة تشمل:

• فشل كبدي حاد قد يستلزم زراعة كبد.

• فشل كلوي.

• قصور قلبي.

• التهابات شديدة.

• اضطرابات دائمة في الجهاز العصبي.

• الوفاة.

الوقاية من التسمم بالحديد

• حفظ مكملات الحديد بعيداً عن متناول الأطفال.

• استخدام العبوات التي تحتوي على غطاء أمان للأطفال.

• توعية الأهالي حول مخاطر تناول جرعات زائدة.

• مراقبة تناول مكملات الحديد تحت إشراف طبي وعدم تجاوز الجرعات الموصوفة.

• فحص الأشخاص الذين يعانون من أمراض مزمنة قد تزيد من مخاطر تراكم الحديد.

التسمم بالحديد المزمن

ينتج عن تراكم الحديد تدريجياً في الجسم بسبب حالات مثل داء ترسب الأصبغة الدموية، أو نتيجة نقل الدم المتكرر. هذه الحالة تختلف عن التسمم الحاد في أنها تتطور ببطء وتؤدي إلى تلف الأعضاء تدريجياً مثل الكبد، القلب، والبنكرياس. علاجها يعتمد على:

• العلاج الكيماوي بالمرابطات (Deferasirox، Deferiprone).

• تقليل تناول الحديد الغذائي.

• عمليات الحجامة في بعض الحالات (إزالة الدم بشكل دوري لتقليل الحديد).

الجدول التالي يوضح مراحل التسمم بالحديد وأعراضها الرئيسية

الخاتمة

التسمم بالحديد يمثل حالة طبية حرجة تتطلب تدخلًا سريعًا لمنع حدوث مضاعفات خطيرة قد تهدد الحياة. تكمن الخطوة الأولى في التوعية ومنع تناول الحديد بجرعات غير مضبوطة، خصوصاً بين الأطفال. مع التشخيص المبكر والعلاج المناسب، يمكن السيطرة على التسمم والحد من أضراره بشكل كبير. علاوة على ذلك، فإن متابعة المرضى الذين يعانون من حالات مزمنة تؤدي إلى تراكم الحديد أمر ضروري للحفاظ على سلامتهم وصحتهم العامة.

المصادر:

1. Harrison’s Principles of Internal Medicine, 20th Edition, Chapter on Iron Metabolism and Disorders.

2. UpToDate – Iron Toxicity: Pathophysiology, Clinical Manifestations, and Diagnosis.