أنواع الرؤية السردية في الأدب

مفهوم الرؤية السردية

الرؤية السردية هي واحدة من الأدوات الأساسية في فن السرد الأدبي، فهي تؤثر بشكل كبير على طريقة تقديم الأحداث واختيار التفاصيل والتفاعل بين الشخصيات. تتعلق الرؤية السردية بكيفية رؤية الراوي للعالم الذي يصفه وكيفية نقل هذه الرؤية إلى القارئ. في هذا المقال، سنتناول مفهوم الرؤية السردية في الأدب بشكل شامل، من حيث تعريفها، وأنواعها، ودورها في تطوير النص السردي، وكيفية تأثيرها في فهم القارئ للأحداث والشخصيات.

تعريف الرؤية السردية

الرؤية السردية هي المنظور الذي يتم من خلاله سرد الأحداث في العمل الأدبي، وهي تعد واحدة من أهم العناصر التي تؤثر على كيفية تقديم القصة. يمكن تعريفها بأنها زاوية النظر التي يتبناها الراوي عند نقل الأحداث، ومن خلال هذه الزاوية تتشكل طبيعة الإحساس بالزمن والمكان، وكذلك عمق الشخصية وتجاربها.

إن الرؤية السردية تعكس علاقة الراوي بالعالم السردي الذي يقدمه، وتعتمد على عدة عوامل منها: درجة قرب الراوي من الأحداث، ومدى اطلاعه على ما يحدث، وأسلوب تفكير الراوي نفسه. هذه الرؤية ليست مجرد وسيلة للسرد بل هي أداة تمكن القارئ من فهم المواقف بشكل مغاير بناءً على طريقة تقديمها.

أهمية الرؤية السردية

تعتبر الرؤية السردية من العوامل الأساسية التي تحدد طبيعة العمل الأدبي وتؤثر في شكل تلقيه من قبل القارئ. على سبيل المثال، تختلف قراءة نفس الحدث إذا تمت رؤيته من منظور شخصية معينة مقارنة بنظرة شخصية أخرى. كما أن الراوي الذي يملك المعلومات الكاملة حول الأحداث يخلق حالة من التوتر والتشويق لدى القارئ مقارنة بالراوي الذي يقتصر على ما يراه أو يشعر به.

تلعب الرؤية السردية دورًا محوريًا في تسليط الضوء على بعض جوانب القصة دون غيرها، مما يسهم في تشكيل طريقة تفكير القارئ حول الشخصيات والأحداث. ومن خلال اختيار نوع الرؤية السردية، يمكن للكاتب أن يثير المشاعر أو يثير أسئلة فكرية أو يحفز القارئ على اكتشاف الأبعاد المختلفة للقصة.

أنواع الرؤية السردية

تتنوع الرؤى السردية في الأدب، ويمكن تصنيفها إلى عدة أنواع بناءً على طريقة تقديم الراوي للأحداث، ومقدار معرفته بما يحدث. وفيما يلي أبرز أنواع الرؤية السردية:

1. الرؤية السردية بضمير المتكلم (أنا)

في هذا النوع من الرؤية، يتم سرد الأحداث من وجهة نظر شخصية واحدة فقط، وهي الراوي نفسه. يستخدم الراوي في هذا النوع ضمير المتكلم “أنا”، مما يجعل القارئ يقتصر على معرفة مشاعر وأفكار هذه الشخصية فقط. على الرغم من أن هذا النوع من الرؤية يسمح للقارئ بأن يتفاعل بشكل أكبر مع الراوي ويشعر بما يشعر به، إلا أنه في الوقت نفسه يحد من رؤيته لبقية الشخصيات والأحداث.

مزايا هذا النوع:

• قدرة الراوي على نقل تفاصيل عاطفية ودقيقة حول مشاعره.

• تعميق العلاقة بين القارئ والشخصية الراوية.

عيوب هذا النوع:

• قيد محدودية المعرفة؛ حيث يعرف القارئ فقط ما يعرفه الراوي.

2. الرؤية السردية بضمير الغائب (هو/هي)

في هذا النوع، يقوم الراوي بسرد الأحداث من خلال مراقبته للشخصيات الأخرى، ويستخدم ضمير الغائب “هو” أو “هي” للإشارة إلى الأبطال. هذا النوع من الرؤية قد يكون من منظور شخص ثالث يشهد الأحداث أو قد يكون من منظور الراوي الذي يمتلك معرفة كاملة بكل شيء (الرؤية الشاملة).

مزايا هذا النوع:

• يتيح عرض أكثر من وجهة نظر في الوقت نفسه.

• يمكن للراوي أن يقدم معلومات حول مشاعر الشخصيات وأفكارها، بالإضافة إلى تفاصيل عن أحداث لا يعرفها أي من الشخصيات.

عيوب هذا النوع:

• قد يصعب على القارئ التفاعل العاطفي المباشر مع الشخصيات كما في حالة ضمير المتكلم.

3. الرؤية السردية المحدودة

في هذا النوع من الرؤية، يكون الراوي على دراية بما يدور في ذهن شخصية معينة فقط، ويقدم سردًا محصورًا في هذه الشخصية. هذه الرؤية توفر نوعًا من التفرد في فهم شخصية معينة، حيث يسمح للراوي بالتعمق في عواطفها وأفكارها، ولكنه لا يقدم القصة من وجهات نظر الشخصيات الأخرى.

مزايا هذا النوع:

• يعزز العلاقة العاطفية بين القارئ والشخصية الراوية.

• يقدم منظورًا عميقًا يسمح بالتعرف على تفاصيل دقيقة بشأن شخصية معينة.

عيوب هذا النوع:

• قد تترك القارئ في حالة من الغموض بشأن الشخصيات الأخرى والأحداث من منظورهم الخاص.

4. الرؤية السردية الشاملة (Omniscient)

الرؤية السردية الشاملة هي التي يمتلك فيها الراوي معرفة تامة بكل الأحداث والشخصيات في القصة، بما في ذلك أفكار ومشاعر الشخصيات وأحداث الماضي والمستقبل. الراوي في هذا النوع يعرف كل شيء ولا يقتصر على جانب واحد من القصة.

مزايا هذا النوع:

• يسمح للراوي بتقديم القصة من جميع الزوايا الممكنة.

• يتيح للقارئ معرفة التفاصيل الكاملة حول كل شخصية وكل حدث في القصة.

عيوب هذا النوع:

• قد يؤثر في توتر القارئ أو يقلل من التشويق.

• قد يؤدي إلى تحكم الراوي المبالغ فيه في القصة مما قد يشوش تجربة القارئ.

5. الرؤية السردية غير الموثوقة

الراوي غير الموثوق هو الذي يقدم السرد بطريقة تكون فيها معلوماته مشكوك فيها أو لا يمكن اعتمادها بالكامل. قد يكون هذا بسبب تحيز الراوي، أو بسبب مشاكله النفسية، أو لأنه يضلل القارئ عن عمد. في هذا النوع من السرد، يصبح القارئ في حالة من الاستفهام حول الحقيقة الفعلية للأحداث.

مزايا هذا النوع:

• يثير التوتر والغموض في القصة.

• يمنح القارئ مساحة أكبر للتفكير والتفسير الذاتي.

عيوب هذا النوع:

• قد يصعب على القارئ بناء علاقة مستقرة مع الشخصيات أو الحدث.

• قد يؤدي إلى تشويش القارئ حول حقيقة القصة.

دور الرؤية السردية في تشكيل الفهم الأدبي

إن الرؤية السردية لا تقتصر على تقديم الأحداث من زاوية واحدة فحسب، بل تساهم أيضًا في تشكيل معاني القصة وتوجيه تفكير القارئ نحو موضوعات معينة. على سبيل المثال، إذا تم استخدام رؤية شاملة، قد يكون للراوي دور في توجيه القارئ نحو الإحساس الشامل بالصراع أو التوتر في القصة. بينما تساهم الرؤية المحدودة في تعميق العلاقة مع شخصية معينة وتمنح القارئ فرصة للغوص في عالمها الداخلي.

كما أن تغيير الرؤية السردية قد يغير من أسلوب الفهم والتفسير لدى القارئ، مما يؤدي إلى أن تتخذ القصة دلالات ومعاني مغايرة تمامًا بناءً على وجهة نظر الراوي.

الخاتمة

الرؤية السردية هي عنصر أساسي في فن السرد، وهي تساهم في توجيه كيفية تجربة القارئ للنص وفهمه له. من خلال اختيار الراوي واستخدام نوع الرؤية السردية المناسبة، يستطيع الكاتب التحكم في المشاعر والأفكار التي يريد أن ينقلها إلى القارئ. إن فهم الرؤية السردية يعزز من قدرة القراء على تقدير عمق النصوص الأدبية واكتشاف طبقاتها المعقدة.