أنواع الذاكرة وآلية عملها

الذاكرة في علم النفس: مفهومها، أنواعها، وآليات عملها

تعتبر الذاكرة من أهم وظائف الدماغ البشري، إذ إنها تشكل أساس تفاعل الإنسان مع العالم من حوله. فقدرتنا على تذكر الأحداث والمعلومات تمثل جوهر تجاربنا اليومية وتساهم في تشكيل شخصياتنا وتوجهاتنا الفكرية. على الرغم من أننا نعيش في عصر تكنولوجيا المعلومات حيث يمكن تخزين واسترجاع البيانات باستخدام أجهزة الكمبيوتر، تظل الذاكرة البشرية ذات خصائص معقدة وفريدة يصعب تقليدها أو محاكاتها. في هذا المقال، سنغطي جوانب متعددة من الذاكرة في علم النفس، بدءًا من تعريفها وصولاً إلى أنواعها المختلفة وآليات عملها، بالإضافة إلى العوامل التي تؤثر فيها.

1. تعريف الذاكرة في علم النفس

في علم النفس، تُعرَّف الذاكرة بأنها عملية معرفية تشمل اكتساب المعلومات، وتخزينها، واسترجاعها عند الحاجة. هي النظام الذي يُمكّن الأفراد من الاحتفاظ بالخبرات السابقة والبيانات المختلفة واستخدامها في مواقف جديدة. تعتبر الذاكرة جزءاً أساسياً في تكوين الخبرات الشخصية والمعرفية للإنسان، وتعتبر الآلية التي تُمكن الأفراد من التعلم والتكيف مع بيئتهم.

تتأثر الذاكرة بعوامل متعددة، مثل الانتباه، والمشاعر، والعوامل البيئية. كما أنها تتوزع على عدة مراحل: التسجيل (أو الاستقبال)، والتخزين، والاسترجاع. كل مرحلة من هذه المراحل تعتمد على وظائف عصبية معقدة تحدث في الدماغ.

2. أنواع الذاكرة

تقسّم الذاكرة في علم النفس إلى عدة أنواع بناءً على طريقة التخزين ومدة الاحتفاظ بالمعلومات:

2.1 الذاكرة قصيرة المدى

تُعرف الذاكرة قصيرة المدى بأنها القدرة على الاحتفاظ بالمعلومات لفترة زمنية قصيرة تتراوح من بضع ثوانٍ إلى دقائق. على الرغم من أنها محدودة سعةً، إلا أنها تلعب دوراً حيوياً في تعاملنا مع مواقف الحياة اليومية. من أمثلة الذاكرة قصيرة المدى هي تذكر رقم هاتف لحين الاتصال به أو تذكر اسم شخص تعرفت عليه مؤخراً.

تستطيع الذاكرة قصيرة المدى أن تحتفظ بعدد محدود من العناصر في وقت واحد، ويُعتقد أن هذه السعة تتراوح بين 5 إلى 9 عناصر (المعروفة بنطاق “7 ± 2”). يمكن تحسين هذه السعة من خلال تقنية تسمى “التجميع” (Chunking)، حيث يتم تجميع المعلومات في وحدات أكبر وأكثر معنى.

2.2 الذاكرة طويلة المدى

الذاكرة طويلة المدى هي النوع الذي يسمح بتخزين المعلومات لفترات طويلة جداً، قد تمتد من ساعات إلى سنوات. تتسم الذاكرة طويلة المدى بسعة غير محدودة نسبياً، مما يعني أن الإنسان قادر على تخزين كميات هائلة من المعلومات طوال حياته. تعتمد الذاكرة طويلة المدى على تقنيات مختلفة لتخزين البيانات مثل الترميز، والتكرار، والتحليل العميق للمعلومات.

تقسّم الذاكرة طويلة المدى إلى نوعين رئيسيين:

• الذاكرة الصريحة (المعرفة الواعية): وهي المعلومات التي يمكن استرجاعها بشكل متعمد وواعٍ، مثل الحقائق (الذاكرة الدلالية) والتجارب الشخصية (الذاكرة العرضية).

• الذاكرة الضمنية (اللاواعية): وهي المعلومات التي لا يتم استرجاعها بشكل واعٍ، مثل المهارات الحركية أو العادات (الذاكرة الحركية) والتعلم غير الواعي (مثل تعلم اللغة).

2.3 الذاكرة الحسية

الذاكرة الحسية هي نوع من الذاكرة التي تتعامل مع المعلومات الواردة من الحواس. هذه الذاكرة قصيرة جداً، حيث تتعلق بتخزين المعلومات لفترة زمنية قصيرة جداً بعد أن يتم تنشيطها بواسطة الحواس. مثال على ذلك هو تذكر صورة أو صوت معين لفترة قصيرة بعد التعرض لها.

يتمثل دور الذاكرة الحسية في السماح لنا بمعالجة المعلومات الحسية بسرعة وبكفاءة قبل أن نقرر ما إذا كنا سنخزنها في الذاكرة قصيرة المدى أو نتجاهلها.

2.4 الذاكرة العاطفية

الذاكرة العاطفية هي نوع من الذاكرة التي ترتبط بالمشاعر والتجارب العاطفية. غالبًا ما تكون هذه الذكريات أكثر قوة ووضوحًا بسبب تأثير المشاعر القوية التي ترافقها. يتم تخزين الذكريات العاطفية في الدماغ بشكل يختلف عن الذكريات التي لا تحمل عواطف قوية، وغالباً ما يكون من السهل استرجاع هذه الذكريات في حالات مشابهة للمواقف العاطفية التي شهدتها سابقًا.

3. آلية عمل الذاكرة

تعمل الذاكرة بناءً على مجموعة من العمليات العصبية المعقدة التي تحدث في الدماغ. يمكن تقسيم آلية عمل الذاكرة إلى ثلاث مراحل رئيسية:

3.1 التشفير (Encoding)

التشفير هو العملية التي يتم خلالها تحويل المعلومات المستقبلة إلى شكل يمكن تخزينه في الذاكرة. أثناء هذه المرحلة، يُحول الدماغ المعلومات الواردة عبر الحواس إلى رموز عصبية يستطيع الدماغ معالجتها.

التشفير يعتمد على عدة عوامل مثل الانتباه، والاهتمام، والتركيز على المعلومات. كما أن عملية التشفير قد تكون أكثر فعالية عندما يتم ربط المعلومات الجديدة بمعلومات قديمة تم تخزينها في الذاكرة.

3.2 التخزين (Storage)

بعد أن يتم تشفير المعلومات، يأتي دور التخزين الذي يتم من خلاله الحفاظ على هذه المعلومات في الذاكرة لفترات طويلة أو قصيرة حسب النوع. تخزين الذاكرة يحدث في مناطق مختلفة من الدماغ، وفي الغالب يتم تخزين الذكريات طويلة المدى في الحُصين (الهيبوكامبوس) وبعض مناطق القشرة الدماغية.

تعد عملية التخزين عملية نشطة، حيث تتغير الذكريات وتُعدل بناءً على التجارب الجديدة.

3.3 الاسترجاع (Retrieval)

الاسترجاع هو عملية الوصول إلى المعلومات المخزنة في الذاكرة. يشمل الاسترجاع تفعيل الخلايا العصبية التي خزنت المعلومات أثناء التشفير. قد يتأثر الاسترجاع بعدة عوامل، مثل وجود إشارات أو محفزات مرتبطة بالذاكرة، أو العوامل العاطفية التي تساهم في تعزيز قدرة الشخص على استرجاع ذكرى معينة.

يمكن أن يواجه الإنسان صعوبة في استرجاع المعلومات في بعض الأحيان بسبب تداخل الذكريات أو فقدان المعلومات بسبب مشكلات في الدماغ، كما يحدث في حالات مثل مرض الزهايمر.

4. العوامل المؤثرة في الذاكرة

تؤثر مجموعة من العوامل في قدرة الإنسان على التذكر وتخزين المعلومات. من أبرز هذه العوامل:

4.1 التوتر والضغط النفسي

يؤثر التوتر والضغط النفسي على الذاكرة بشكل كبير، حيث يؤدي القلق المزمن إلى تقليل قدرة الدماغ على تخزين المعلومات بفعالية، ويصعب استرجاع المعلومات المخزنة. في المقابل، تشير الدراسات إلى أن بعض المواقف العاطفية أو الضغط النفسي الحاد قد يعزز القدرة على التذكر على المدى القصير.

4.2 النوم

النوم يلعب دورًا حاسمًا في تحسين الذاكرة. خلال النوم، يقوم الدماغ بتنظيم المعلومات المخزنة وترتيبها، ما يعزز قدرتنا على التذكر. كذلك، يرتبط النوم الجيد بتحسين الأداء في مهام تتطلب استرجاع المعلومات.

4.3 التكرار والمراجعة

تعتبر عملية التكرار من أكثر الطرق فعالية في تعزيز الذاكرة. من خلال التكرار المنتظم للمعلومات، يمكن تقويتها وتعزيز الاحتفاظ بها على المدى الطويل.

4.4 التغذية السليمة

تؤثر التغذية على صحة الدماغ، وبالتالي على القدرة على التذكر. الأطعمة الغنية بمضادات الأكسدة والأحماض الدهنية الأساسية، مثل الأوميغا-3، تحسن الوظائف الدماغية بشكل عام، بما في ذلك الذاكرة.

5. اختلالات الذاكرة

على الرغم من أهمية الذاكرة في حياة الإنسان، فإنها قد تواجه عدة اختلالات تؤثر على قدرة الفرد على التذكر والاسترجاع. من أبرز هذه الاختلالات:

5.1 النسيان

النسيان هو عملية فسيولوجية طبيعية تحدث عندما تصبح المعلومات غير قابلة للاسترجاع. قد يحدث النسيان بسبب تداخل الذكريات أو فقدانها بمرور الوقت. بينما يعد النسيان جزءًا من الحياة الطبيعية، إلا أن هناك حالات قد يشير فيها النسيان إلى وجود مشكلات صحية.

5.2 فقدان الذاكرة (Amnesia)

فقدان الذاكرة هو حالة مرضية حيث يفقد الشخص القدرة على تذكر معلومات أو أحداث معينة. يمكن أن يكون فقدان الذاكرة جزئيًا أو كليًا، مؤقتًا أو دائمًا. هناك أنواع عديدة لفقدان الذاكرة، مثل فقدان الذاكرة التقدمي (عجز في تذكر الأحداث الحديثة) وفقدان الذاكرة الرجعي (عجز في تذكر الأحداث القديمة).

5.3 مرض الزهايمر

يعد مرض الزهايمر من أكثر الأمراض العصبية شيوعًا التي تؤثر على الذاكرة. يسبب هذا المرض تدهور