“أمريكا المدينة الصغيرة: تاريخ سردي من 1620 إلى الوقت الحاضر” – تأملات في تطور وتراجع البلدات الصغيرة في الولايات المتحدة
إن كتاب “أمريكا المدينة الصغيرة: تاريخ سردي من 1620 إلى الوقت الحاضر” للمؤلف ريتشارد ر. لينغمان يعد دراسة شاملة لتاريخ البلدات الصغيرة في الولايات المتحدة الأمريكية. هذا العمل يعكس مشوارًا طويلًا عبر الزمن، من بدايات الاستيطان الأوروبي في أمريكا الشمالية إلى الزمن المعاصر، مقدّمًا رؤية متكاملة حول كيفية تطور هذه المجتمعات الصغيرة عبر العصور المختلفة وتأثير الأحداث الوطنية الكبرى عليها.
يبدأ لينغمان كتابه من لحظة تاريخية محورية، وهي تأسيس أولى المستوطنات في أمريكا الشمالية، مثل “بليموث روك” في القرن السابع عشر. ينظر الكاتب إلى هذه المرحلة كفترة تأسيسية للمجتمع الأمريكي، حيث كانت البلدات الصغيرة بمثابة حجر الزاوية في بناء الهوية الأمريكية الناشئة. في تلك الفترة، كانت البلدات الصغيرة تعتمد على الزراعة والحرف اليدوية كمصدر رئيسي للعيش، وكانت تسودها روح التعاون والاعتماد على الذات.
مع مرور الوقت، وتحديدًا خلال القرن التاسع عشر، شهدت هذه البلدات تحولات كبيرة بفعل الثورة الصناعية والتوسع الغربي. يشير لينغمان إلى أن تطوير السكك الحديدية والنمو الصناعي أدى إلى ازدهار بعض البلدات التي كانت تقع على مسارات النقل الرئيسية أو كانت غنية بالموارد الطبيعية. في المقابل، أدى هذا التوسع أيضًا إلى تراجع العديد من البلدات الصغيرة التي لم تكن قادرة على مواكبة التحولات الاقتصادية السريعة.
خلال القرن العشرين، أصبحت البلدات الصغيرة رمزًا للحياة الأمريكية التقليدية، وبرزت في الوعي الثقافي كتمثيل للبساطة والراحة والهدوء. ومع ذلك، يشير لينغمان إلى أن هذه الصورة المثالية أخفت خلفها تحديات حقيقية كانت تواجهها هذه المجتمعات. على الرغم من وجود فترات من الازدهار، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، فإن العديد من البلدات الصغيرة عانت من تدهور اقتصادي نتيجة لنمو المدن الكبرى وانتشار الشركات الكبيرة والتغيرات في أنماط الحياة.
في العقود الأخيرة من القرن العشرين، شهدت العديد من البلدات الصغيرة في الولايات المتحدة تراجعًا كبيرًا بسبب التغيرات الاقتصادية والاجتماعية، مما جعل بعضها يفقد جزءًا كبيرًا من سكانه واقتصاده. يتحدث لينغمان عن تأثير انتشار المراكز التجارية الكبيرة (الشوبينغ مولز) على “شوارع الرئيسي” التي كانت تشكل القلب الاقتصادي والاجتماعي لهذه البلدات. فبينما كانت هذه المراكز تمثل تطورًا حديثًا وراحة للمستهلكين، إلا أنها كانت تسهم أيضًا في تجريف الروح التقليدية التي كانت تميز البلدات الصغيرة.
يتناول الكتاب أيضًا تأثير السياسات الحكومية والاقتصادية على مصير البلدات الصغيرة. على سبيل المثال، أدى التركيز على دعم المدن الكبرى وتطوير البنية التحتية الضخمة إلى تهميش البلدات الصغيرة، مما جعلها تعتمد بشكل كبير على نفسها أو على مبادرات فردية لإعادة إحياء اقتصادها. ويبرز لينغمان في هذا السياق قصصًا لبعض البلدات التي استطاعت البقاء والتكيف مع هذه التحديات من خلال تعزيز قطاع السياحة أو استقطاب صناعات جديدة.
يعتبر “أمريكا المدينة الصغيرة” ليس فقط توثيقًا لتاريخ هذه المجتمعات، بل أيضًا دعوة للتفكير في مستقبلها. هل يمكن لهذه البلدات أن تعود إلى سابق عهدها؟ وهل هناك إمكانية لتحقيق توازن بين التحديث والحفاظ على الروح التقليدية التي كانت تميزها؟
في النهاية، يعكس كتاب لينغمان تشابك تاريخ البلدات الصغيرة مع التاريخ الأمريكي العام، وكيف كانت هذه المجتمعات الصغيرة مرآة تعكس التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي مرت بها الولايات المتحدة على مر القرون. إن هذا الكتاب يعد مصدرًا قيمًا لفهم جزء مهم من الهوية الأمريكية، ويذكرنا بأهمية الحفاظ على التنوع الاجتماعي والثقافي في مواجهة تحديات العولمة والتغيرات الاقتصادية السريعة.