السفهاء وأثرهم في المجتمع

السفهاء في ميزان العقل والحكمة

في مسرح الحياة اليومية، لا يغيب عن مشهد التجارب والمواقف وجود فئة من الناس يُطلق عليهم وصف “السفهاء”، وهم أولئك الذين يتسم سلوكهم بالخفة، وحديثهم بالسذاجة، وتصرفاتهم بالجهل أو الاندفاع. السفيه ليس بالضرورة فقيراً في العلم أو المال، بل هو فقير في الاتزان العقلي، والخلق المتزن، والحكمة في المواقف، والوعي في التعامل مع الآخرين. ولأن أثر السفهاء يتعدى حدودهم الشخصية، ويطال المجتمع وأفراده، فقد تناولهم الحكماء والعلماء والأدباء بأقوال حادة، وتحليلات دقيقة، ووصايا نافذة، تكشف خطورتهم وتدل على كيفية التعامل معهم.

إن فهم ظاهرة السفهاء لا يكون فقط من خلال رصد مظاهرها، بل أيضاً من خلال الغوص في تراث الحكماء الذين عبّروا عنها بأقوال خالدة، تحمل معاني عظيمة في بُعدها الأخلاقي والاجتماعي والفكري. ويأتي هذا المقال ليقدم رصداً موسعاً لهذه الأقوال، وتحليلاً لمدلولها، وإضاءة على مكانة السفهاء في ميزان الحكمة، مع التطرق إلى آثارهم في المجتمع، وكيفية مواجهتهم بحصانة العقل وسداد الرأي.

مفهوم السفه والسفيه في اللغة والاصطلاح

السفه في اللغة يدل على الخفة، وقلة الرشد، وسوء التدبير، ويقال: “سفِهَ رأيه” إذا كان طائشًا غير رصين، و”السفيه” هو من فقد الاتزان العقلي والأدبي في كلامه أو فعله. أما في الاصطلاح، فالسفيه هو ذلك الشخص الذي يتصرف بجهالة، ويتكلم بسوء أدب، ويتخذ مواقف غير محسوبة، لا يراعي عواقبها ولا يحترم قواعد السلوك السليم.

وقد ورد ذكر السفه في القرآن الكريم، في قوله تعالى:

“ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً” [النساء: 5]،

دلالة على ضرورة منع السفيه من التصرف بالأموال، لأنه ليس أهلاً للإدارة والتدبير.

صفات السفهاء

إن للسفهاء صفات مشتركة تشكل نمطاً واضحاً يمكن رصده في حياتهم وسلوكهم، من أبرزها:

• قلة العقل وبعد النظر

• التسرع والانفعال دون روية

• الثرثرة والكلام الفارغ

• العدوانية اللفظية أو الفعلية في النقاش

• الإساءة للغير دون سبب

• حب الظهور على حساب الآخرين

• العناد والجدال العقيم

هذه الصفات تجعل من السفيه شخصاً مزعجاً، وقد يؤثر سلباً في محيطه العائلي والاجتماعي، ويسبب الفتن والنزاعات، ويضعف مناخ التفاهم والاحترام.

أقوال مأثورة عن السفهاء

على مر العصور، عبّر الحكماء عن السفهاء بأقوال تحمل دروساً بالغة، وسخّروا اللغة لتكون أداة فكرية لتشريح شخصيتهم وكشف مضارهم. من هذه الأقوال نذكر:

• علي بن أبي طالب رضي الله عنه:

  “العاقل إذا سُئل أجاب، والسفيه إذا لم يُسأل ابتدأ”.
  
  دلالة على أن السفيه لا يزن الكلام ولا يضبط أوقات الحديث.

• لقمان الحكيم:

  “لا تجادل السفيه فيغلبك بجهله”.
  
  إشارة إلى أن السفيه يستخدم أساليب لا عقلانية تجرك إلى مستواه.

• الإمام الشافعي:

  “إذا نطق السفيه فلا تجبه… فخير من إجابته السكوتُ”.
  
  “فإن كلّمتَه فرّجت عنه… وإن تركتَه كمداً يموتُ”.
  
  توجيه صريح إلى ضرورة تجاهل السفيه، لأن الرد عليه يعطيه قيمة لا يستحقها.

• ابن الجوزي:

  “دواء السفيه الإعراض عنه، فإنك إن أجبته زدتَه طيشاً، وإن سكتَّ عنه قطعته”.
  
  دعوة إلى الحزم في التعامل مع السفه، دون النزول إلى مستواه.

• عبد الملك بن مروان:

  “إني لأعجب ممن يجاوب السفيه، ويخالط الجاهل، ويتعرض للجاهلين، وقد أمر الله بالإعراض عنهم”.
  
  وقد استند بذلك إلى قوله تعالى:
  
  “وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما” [الفرقان: 63]

آثار مخالطة السفهاء

السفيه لا يكون ضرره مقتصراً على نفسه فقط، بل يمتد ضرره إلى من يجاوره أو يصاحبه أو يستمع إليه. من أبرز آثار مخالطته:

الحصانة الفكرية في مواجهة السفهاء

إن التعامل مع السفهاء لا يكون بالاندفاع أو بالمثل، بل يحتاج إلى حكمة وضبط وانضباط. وفيما يلي أبرز الأساليب التي تكفل النجاة من آثارهم:

• الإعراض الواعي: عدم مجاراتهم في الجدال أو النقاش، لقوله تعالى: “وأعرض عن الجاهلين”.

• السكوت المؤدب: السكوت في وجه السفيه لا يعني ضعفاً، بل دلالة على رُقي الأخلاق.

• الرد بالحكمة إن لزم الأمر: حين يكون الرد ضرورياً لدرء مفسدة أكبر، يجب أن يكون موزوناً ومختصراً.

• الابتعاد عن مجالسهم: عدم الجلوس في مجالس يغلب عليها الطيش أو السخرية أو الكلام الفارغ.

• التذكير بالقيم دون إهانة: إن أمكن، التذكير بالأدب والاحترام بطريقة مهذبة دون الدخول في مهاترات.

السفيه في الأدب العربي

برزت شخصية السفيه كثيرًا في النصوص الشعرية والنثرية، وغالبًا ما كانت موضع سخرية أو وعظ أو نقد اجتماعي. ومن أشهر ما قيل في الشعر:

“كلُّ امرئٍ يُعرض عن السفيهِ فقدْ

أعرضَ عن بلاءٍ لا دواءَ لهُ”

كما أشار الجاحظ في كتابه البيان والتبيين إلى السفيه، موضحًا أنه “من أخطر الآفات في مجلس الحكم أو المناظرة، لأنه يُفسد المنطق، ويُشوه الحقيقة بسوء لسانه لا بعمق حُجّته”.

السفهاء في المجتمع المعاصر

في واقع اليوم، لم يتغير حال السفهاء كثيرًا، بل ربما اتسعت ساحات ظهورهم، لا سيما مع انفتاح وسائل التواصل الاجتماعي، التي أضحت منصات مفتوحة لمن يملكون أقل قدر من الفهم، وأكثر درجات من الجرأة والسطحية. السفيه اليوم قد يكون من مشاهير المحتوى التافه، أو من يتعمد استفزاز الناس بكلام سوقي لا هدف له سوى الإثارة. وقد نالت هذه الظاهرة اهتمام علماء الاجتماع والإعلام، مؤكدين أن تغذية السفه عبر المنصات يعزز السلوكيات المدمرة داخل المجتمع، ويضعف من صوت الحكمة والتفكير الرصين.

أثر السفهاء في تشويه الوعي الجماهيري

أحد أخطر ما يسببه السفهاء هو تشويه القيم الجماهيرية، من خلال تقديم محتوى هابط، أو تبني مواقف مثيرة للسخرية، أو خوضهم في قضايا عامة دون علم. هذا ينعكس في:

• شيوع الأفكار السطحية.

• تغييب العقل الجمعي أمام الخطاب المبتذل.

• تهميش صوت المثقف والعاقل.

• تعزيز ثقافة “الترند” الساذج والمحتوى الخالي من القيمة.

دور العقلاء في صدّ السفهاء

من مسؤولية أصحاب الفكر والعلم والثقافة الوقوف في وجه السفهاء، لا بالصراخ، ولكن بنشر النور. ويكون ذلك من خلال:

• تقديم القدوة الحسنة في النقاش والتحليل.

• نشر المحتوى الهادف والتوعوي.

• عدم الترويج للمحتوى السفيه، حتى بالتعليق أو النشر.

• تعليم الأجيال مهارات التفكير النقدي.

• استعادة دور المجالس العلمية والبرامج المعرفية الرفيعة.

الخاتمة

السفهاء وإن كثروا في الأزمنة المختلفة، فإنهم لا يشكلون قيمة حقيقية في ميزان التاريخ أو التغيير أو البناء. صوتهم مرتفع، لكنه أجوف، وحركتهم مزعجة، لكنها عقيمة. أما صوت الحكمة، فيبقى راسخاً، وإن خفت؛ لأنه من معدن العقول ومن نور البصائر. والعاقل يدرك أن مجادلة السفيه تعب بلا طائل، ومجاراته نزول إلى قاع لا قرار له.

المراجع:

1. الجاحظ، البيان والتبيين.

2. ابن الجوزي، صيد الخاطر.