أكبر الأديان في دولة العراق: دراسة معمقة حول التعدد الديني والتاريخي

يُعد العراق من البلدان ذات الأهمية الكبيرة على الصعيد الديني، نظراً لما يحمله من تاريخ عريق، وثراء ثقافي، وتعدد ديني مذهل عبر العصور. يقع العراق في قلب الشرق الأوسط، ويحتضن مجموعة متنوعة من الأديان والطوائف التي عاشت معاً، أو تنافست، أو تعايشت على مدى آلاف السنين. يمتاز العراق بموقعه الجغرافي الذي جعله ملتقى للحضارات الكبرى مثل السومرية، والبابلية، والآشورية، إضافة إلى كونه مهد الأديان السماوية الكبرى مثل الإسلام والمسيحية واليهودية.

في هذا المقال، سيتم التطرق إلى أكبر الأديان في العراق من حيث العدد والتأثير، مع التركيز على التكوين الديني للمجتمع العراقي، وكيف تطور هذا التكوين عبر التاريخ، إضافة إلى الأبعاد الثقافية والاجتماعية والسياسية المرتبطة بالتعدد الديني.

نظرة تاريخية على التعدد الديني في العراق

يرتبط تاريخ العراق الديني بتاريخ الحضارات القديمة التي نشأت في وادي الرافدين (ميسوبوتاميا)، حيث كانت هناك ديانات محلية متعددة تعتمد على عبادة الآلهة الطبيعية مثل الإله مردوخ والإلهة عشتار وغيرها من آلهة السماء والماء والنار. مع مرور الوقت، شهد العراق تحولات دينية كبيرة مع ظهور الديانات الإبراهيمية، وأصبح نقطة التقاء للمسيحية واليهودية، ثم مع الفتح الإسلامي، أصبح الإسلام الدين السائد.

كانت العراق عبر التاريخ مركزاً دينياً وثقافياً مهماً. فقد استضافت مدنه مثل بغداد، الكوفة، والنجف مراكز دينية وعلمية بارزة، وكان فيها تنوع ديني واسع. هذه الخلفية التاريخية هي التي أسهمت في التنوع الديني الموجود حالياً.

الدين الإسلامي في العراق

يعتبر الإسلام الدين الأكبر والأكثر انتشاراً في العراق، إذ يشكل المسلمون حوالي 95% من سكان البلاد. وينقسم المسلمون في العراق إلى فرعين رئيسيين:

1. الشيعة

الشيعة يشكلون غالبية المسلمين في العراق، ويتركزون بشكل خاص في المناطق الجنوبية من العراق مثل النجف، كربلاء، والبصرة. تُعتبر هذه المدن مراكز دينية هامة للشيعة على مستوى العالم، وتحتضن مرقد الإمام علي والإمام الحسين، وهما من أهم الشخصيات في الفكر الشيعي. يتبع الشيعة في العراق المذهب الجعفري، الذي يُعتبر المذهب الرسمي للشيعة الاثني عشرية.

تاريخياً، لعبت الجماعة الشيعية دوراً محورياً في الحياة الدينية والاجتماعية والسياسية للعراق، وكانت مركزاً للحركات الدينية والفكرية. شهدت هذه الجماعة أيضاً فترات من التمييز السياسي والاضطهاد، خاصة خلال عهد النظام السابق.

2. السنة

يشكل السنة أقلية كبيرة داخل الطائفة الإسلامية، ويتركزون في المناطق الوسطى والشمالية من العراق، مثل بغداد، الموصل، وأجزاء من الأنبار. يتبع السنة المذهب الحنفي بشكل رئيسي، بالإضافة إلى بعض الأتباع للمذاهب الأخرى مثل المالكي والشافعي.

يعتبر السنة في العراق جزءاً أساسياً من النسيج الاجتماعي والسياسي، وقد لعبوا أدواراً كبيرة في تاريخ العراق الحديث، مع مشاركة بارزة في الحكومة والمجتمع المدني. على الرغم من ذلك، واجهت الطائفة السنية تحديات عديدة، خاصة بعد سقوط نظام صدام حسين، حيث شهدت نزاعات طائفية وأزمات سياسية.

المسيحية في العراق

تعد المسيحية ثاني أكبر ديانة في العراق بعد الإسلام، رغم تراجع عدد أتباعها خلال العقود الأخيرة بسبب الهجرة والنزاعات. يقدر عدد المسيحيين في العراق بحوالي 1-2% من السكان، وتتركز هذه الطائفة بشكل رئيسي في شمال العراق، وبالأخص في منطقة الموصل، وأربيل، ودهوك.

تتميز المسيحية في العراق بتنوع طوائفها، حيث يوجد في العراق طوائف عديدة من المسيحيين منها:

• الكلدان الكاثوليك: يتبعون الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية وهي كنيسة شرقية ترتبط بالكنيسة الكاثوليكية الرومانية.

• الأرثوذكس الشرقيون: مثل الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، وهي واحدة من أقدم الطوائف المسيحية.

• الأرمن الأرثوذكس: الذين لديهم حضور ثقافي وديني في بعض مناطق العراق.

• المسيحيون البروتستانت: وهم أقلية صغيرة ولكن لها وجود في بعض المناطق.

يمتلك المسيحيون في العراق تراثاً دينياً وثقافياً غنياً، ولهذا المجتمع دور مهم في المشهد الاجتماعي العراقي. تعرض المسيحيون في العراق للكثير من التحديات خلال الحروب والنزاعات الطائفية، مما أدى إلى هجرة عدد كبير منهم خارج البلاد.

الأديان الأخرى في العراق

رغم أن الإسلام والمسيحية يهيمنان على المشهد الديني، توجد في العراق أديان وأقليات دينية أخرى ذات وجود تاريخي وثقافي مهم:

1. الديانة اليزيدية

الديانة اليزيدية هي ديانة قديمة ذات جذور في الميثولوجيا الدينية المحلية، وتمتاز بتقاليدها الفريدة التي تختلف عن الديانات الإبراهيمية. يتركز اليزيديون بشكل رئيسي في شمال العراق، خاصة في منطقة سنجار.

تعرضت هذه الطائفة إلى اضطهادات كبيرة في السنوات الأخيرة، خاصة على يد تنظيم داعش، مما أثار اهتماماً دولياً بحمايتهم.

2. الصابئة المندائيون

الصابئة هم طائفة دينية قديمة لها جذور في العراق وجنوب غرب إيران، ويُعتبرون من أتباع ديانة توحيدية ذات تراث عميق في نهر دجلة والفرات. يمارسون طقوساً دينية متعلقة بالماء والتطهير، ويتركزون في مناطق جنوب العراق.

3. اليهود

لليهود وجود تاريخي قديم في العراق يعود لآلاف السنين، خاصة في مدن مثل بغداد والبصرة. على الرغم من أن معظم اليهود غادروا العراق خلال القرن العشرين، لا يزال التاريخ اليهودي والعراقي مرتبطين بشكل وثيق، مع وجود بعض المجتمعات الصغيرة والتاريخية.

التركيبة الديموغرافية والدين في العراق: جدول توضيحي

التأثيرات السياسية والاجتماعية للتعدد الديني في العراق

التعدد الديني في العراق له أبعاد كبيرة على المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية. فقد شكلت الهوية الدينية عاملاً رئيسياً في السياسة العراقية، خاصة بعد سقوط نظام صدام حسين في 2003، حيث بدأت الطائفية تلعب دوراً أكثر تأثيراً في بناء النظام السياسي.

ساهمت التوزيعات الدينية في ظهور نظام سياسي يعتمد على المحاصصة الطائفية، حيث يتم توزيع المناصب الحكومية على أساس الانتماء الديني والطائفي. هذا النظام أدى إلى تعزيز أدوار الطوائف الدينية المختلفة، لكنه في الوقت نفسه أدى إلى توترات طائفية بين السنة والشيعة، وأثر على استقرار المجتمع.

على الصعيد الاجتماعي، لطالما كانت المجتمعات الدينية في العراق حاضنة للتراث الثقافي والفني والعلمي، من خلال المدارس الدينية، والمكتبات، والمناسبات الدينية التي تجمع الناس. رغم ذلك، أثرت الحروب والنزاعات على هذه الأجواء، وحدثت موجات نزوح وهجرة أثرت على التوازن الديني.

الخلاصة

يمثل العراق نموذجاً فريداً من التعدد الديني، الذي هو نتاج تاريخ طويل من التفاعل الحضاري والثقافي. يحتل الإسلام بمذاهبه الشيعي والسني المكانة الكبرى بين الأديان، يليه المسيحيون المتنوعون الذين يمثلون جزءاً هاماً من النسيج الديني العراقي. بالإضافة إلى ذلك، تتواجد في العراق أقليات دينية ذات جذور تاريخية عميقة مثل اليزيدية والصابئة واليهود.

هذا التعدد الديني، على الرغم من التحديات التي يواجهها، يشكل جزءاً أساسياً من هوية العراق وتراثه الثقافي، ويبرز أهمية التعايش والتفاهم بين مختلف المكونات لضمان مستقبل مستقر وسلمي للبلاد.

المصادر والمراجع

1. كتاب “الدين والسياسة في العراق: دراسة في التعددية الطائفية”، تأليف د. أحمد عبد الله، دار الشروق للنشر، 2018.

2. تقرير “توزيع السكان الديني في العراق”، منظمة حقوق الإنسان الدولية، 2022.