أقوال شمس الدين التبريزي: الحكمة الصوفية بين العشق الإلهي والتجلي الروحي
يشكل شمس الدين التبريزي أحد أبرز رموز الفكر الصوفي في التاريخ الإسلامي، ويُعد مرجعية روحية وفلسفية أثرت في مسار التصوف الفارسي والعثماني، لا سيما من خلال علاقته العميقة بالمولوي جلال الدين الرومي، والتي أحدثت تحوّلًا جذريًا في حياة الأخير، وجعلت منه شاعرًا وعاشقًا صوفيًا بامتياز. وتُعد أقوال شمس الدين التبريزي مدخلًا رئيسيًا لفهم رؤيته الكونية، وتفسيره الفريد للوجود، والإنسان، والحب، والإله.
لقد ترك التبريزي وراءه ميراثًا غنيًا من الأقوال والحكم المدوّنة ضمن “المقالات” المنسوبة إليه، والمرويّة في سياقات متعددة، والتي تتمحور في جوهرها حول محاور وجودية عميقة تتجاوز ظاهر المعاني لتنفذ إلى أعماق الذات، وتجعل من التأمل في كلماته تجربة روحية متجددة.
شمس الدين التبريزي: من هو؟
ولد شمس الدين محمد بن علي بن ملك داد التبريزي في مدينة تبريز بإيران حوالي عام 1185م، وقد عاش في زمن مضطرب من الناحية السياسية والدينية، ما جعله يميل منذ شبابه إلى التصوف كسبيل للتحرر الروحي والبحث عن الحقائق الكبرى بعيدًا عن السلطة الدينية الرسمية والعلوم التقليدية. كان متصوفًا جوالًا، كثير الترحال، ويُعرف بأنه كان صاحب نظرة نافذة وروح حرة لا تُقيدها الأعراف ولا تقاليد المذهب.
اشتهر بكونه المعلم الروحي لجلال الدين الرومي، وقد التقاه لأول مرة في قونية سنة 1244م، وامتدت صداقتهما لسنوات قليلة، لكنها كانت حاسمة في تغيير مسار حياة الرومي الذي تحوّل من فقيه تقليدي إلى شاعر صوفي متصوف. بعد ذلك، اختفى شمس الدين التبريزي في ظروف غامضة، ولا تزال وفاته محاطة بالأساطير والتأويلات المختلفة.
الخصائص العامة لأقواله
تتميز أقوال شمس الدين التبريزي بلغة رمزية مشحونة بالعاطفة، وتفيض بالحب الإلهي، وتدعو إلى التحرر من الظواهر السطحية للديانة الشكلية، من خلال الإبحار في أعماق التجربة الروحية. وهي أقوال تتنوع بين التأملات الوجودية، والنصائح السلوكية، والحكم الأخلاقية، وتعبّر عن فلسفة تصوفية عميقة لا تستند إلى العقل النظري فحسب، بل تنبع من القلب والعشق.
إن جوهر هذه الأقوال يتمثل في دعوتها للارتباط الحقيقي بالله من خلال المحبة، وتحقيق الوحدة الكونية، وتجاوز التفرقة بين الأنا والآخر، بين العابد والمعبود، بين الظاهر والباطن.
أقوال شمس الدين التبريزي: معاني متجذرة في التصوف
فيما يلي مجموعة مختارة من أبرز أقوال شمس الدين التبريزي، مع تحليل للمضامين الفكرية والروحية الكامنة فيها:
1. “ابحث في أعماق قلبك، لا في المساجد ولا الكنائس. لأن الله لا يسكن الأبنية، بل الأرواح.”
تمثل هذه المقولة خلاصة للرؤية الصوفية التي ترى أن الطريق إلى الله يمر عبر القلب لا عبر الطقوس الظاهرية. ينتقد التبريزي في هذا القول التدين الشكلي، ويدعو الإنسان إلى إدراك أن التجلي الإلهي الحقيقي يكمن في تطهير النفس واكتشاف الله في داخلها.
2. “العشق لا يعرف مقاييس ولا قوانين، إنه كالنهر الجارف، لا يمكن لأحد أن يوقفه أو يحدد مساره.”
ينظر التبريزي إلى العشق كقوة كونية إلهية، لا تتبع منطقًا عقلانيًا، ولا تستجيب لأوامر خارجية. فالعشق في التصوف هو الوسيلة التي يصل بها الإنسان إلى الله، وهو الطريق المختصر إلى الفناء في المحبوب الإلهي، ولذلك هو قوة طاغية لا يمكن التحكم بها.
3. “ما لم تتعلم أن تحب الله كما يحب المجنون معشوقه، فلن تفهم معنى العشق أبدًا.”
في هذا القول يعلي التبريزي من شأن التجربة العاطفية التي تتجاوز العقل، حيث يتم تمثيل العلاقة بالله على نحو يتسم بالجنون العشقي، ما يعكس البعد الوجداني العميق في التصوف. فالحب في هذه الرؤية ليس مفهومًا عقلانيًا يُحلّل، بل نار تشتعل في القلب وتُطهّر الروح.
4. “كن كالشمس، ترسل نورها على الجميع، لا تميّز بين صالح وطالح.”
يوجّه التبريزي دعوةً إلى السلوك المحب والمسامح والشامل، مستلهمًا من خصائص الخالق ذاته، فكما أن الشمس لا تحجب نورها عن أحد، فإن الإنسان الكامل لا يميز في عطائه بين الناس، بل يتجاوز ثنائيات الخير والشر ليرى النور الإلهي في الجميع.
5. “الروح تأنّ من الضيق عندما تُحبس في قوالب الجسد، والناس لا تسمع أنينها.”
يحذر شمس الدين من الانغماس في العالم المادي والسطحي على حساب عالم الروح، حيث يرى أن الروح الإلهية بداخل الإنسان تعاني من الحجب، والواجب هو تحريرها بالتأمل والعرفان والعشق.
6. “السكوت لغة العارفين، فالكلمات قد تضل، أما الصمت فهو بوابة الحقيقة.”
يمثل الصمت في نظر التبريزي حالة روحية سامية، تُعبّر عن اكتفاء العارف بالله، وعن بلوغه مرحلة لا يحتاج فيها إلى وساطة اللغة. الصمت ليس عجزًا، بل قدرة على الاستماع إلى إشارات الوجود، والانصات لنداء القلب.
7. “لا تبحث عن مرشدك في الكتب، بل في الحياة، في الناس، في الشوارع، في قلبك.”
ينتقد التبريزي النزعة الأكاديمية الباردة للمعرفة، ويقدّم بديلًا قائمًا على التجربة الحيّة. فالمعرفة في التصوف لا تُكتسب بالقراءة فقط، بل تتجلى من خلال المعايشة والمكابدة والاختبار المباشر.
مقولات في العشق والتوحد
| القول | المعنى الروحي |
|---|---|
| “العشق هو البحر الذي لا شاطئ له.” | يرمز إلى أن الحب الإلهي لا نهاية له، ويغرق فيه العاشق حتى الفناء. |
| “الحب ليس أن تنظر إلى الآخر، بل أن تنظر معًا في نفس الاتجاه.” | توحيد الروح مع الحقائق العليا لا يكون عبر النظر للآخر، بل عبر السير معًا نحو الله. |
| “من لم يذق طعم الحريق لا يعرف ما هو العشق.” | يعبر عن أن العشق تجربة قاسية، محطّمة للذات، لكنها تقود إلى الحقيقة. |
التبريزي والرومي: لقاء العاشقين
لا يمكن الحديث عن أقوال شمس الدين التبريزي دون التطرق إلى أثره في جلال الدين الرومي. لقد أضاء وجوده في حياة الرومي شعلة الحب والعرفان، وتحوّل الأخير من فقيه تقليدي إلى شاعر ملهم، وكتب ديوانه الأشهر “الديوان الكبير” المعروف بـ”ديوان شمس تبريزي” إكرامًا لأستاذه ومُلهمه الروحي.
تجسد العلاقة بين الرومي والتبريزي المثال الأعلى في الحب الصوفي، حيث اختفى شمس فجأة، لتبدأ رحلة الشوق والبحث والتجلي في قلب الرومي، الذي صاغ أعمق مقولاته الصوفية مستلهمًا منه.
الأثر الفلسفي والوجودي في أقواله
تمثل أقوال شمس الدين التبريزي عمقًا وجوديًا يمكن قراءته في ضوء الفلسفة الصوفية التي تؤمن بأن الحقيقة المطلقة لا تُدرك بالعقل وحده، بل بالعشق والتجربة الروحية. تنطلق رؤيته من وحدة الوجود، حيث لا تمايز حقيقي بين الخالق والمخلوق إلا في الظاهر، أما في الباطن فكل شيء من الله وإليه يعود.
كما أن أقواله تعكس نزعة تحررية في مواجهة النظم الدينية الشكلية، والتقاليد الجامدة، والدعوة إلى تجاوز الظواهر لبلوغ الجوهر، في انسجام مع مفاهيم مثل “السير إلى الله”، “الفناء في المحبوب”، و”السكينة الداخلية”.
أثره في الأدب الصوفي والفكر الإسلامي
كان لأقوال شمس الدين التبريزي تأثير بالغ في الأدب الفارسي والصوفي، وامتد أثره ليصل إلى مدارس التصوف في العالم العربي، وخصوصًا تلك التي تأثرت بالمولويّة. كما انتقل صداه إلى الأدب الغربي المعاصر من خلال الترجمات التي جعلت من أقواله مصدر إلهام فلسفي وروحي عالمي.
في زمننا الحديث، تتردد كلماته في كتب التنمية الذاتية، والفكر الروحي، ويُستشهد بها في المحاضرات والمقالات كحكم ذات طابع إنساني عابر للأديان والثقافات.
الخلاصة
يشكل ميراث شمس الدين التبريزي من الأقوال والحكم نافذة مشرعة على عالم التصوف الحقيقي، ذلك التصوف الذي يتجاوز الشعارات، ويغوص في لبّ التجربة الروحية. فكل عبارة من عباراته تحمل في طيّاتها كنزًا من الإشارات والدلالات التي لا يُدركها إلا من تذوق شيئًا من نور العشق الإلهي، وجعل من قلبه مرآة يتجلى فيها الحبيب الأزلي.
المصادر:
-
التبريزي، شمس الدين. المقالات. ترجمة: إبراهيم الدسوقي شتا، دار المدى، 2011.
-
شمس الدين التبريزي وجلال الدين الرومي، ديوان شمس التبريزي. دار النشر العالمية.
