أقدم حديقة نباتية بالعالم

تقف “حديقة بادوا النباتية” (Orto Botanico di Padova) في إيطاليا كأقدم حديقة نباتية في العالم لا تزال قائمة في موقعها الأصلي حتى يومنا هذا، وتعد أحد أبرز الشواهد الحية على تطور العلوم الطبيعية والبيئية منذ القرن السادس عشر. تأسست هذه الحديقة العريقة في عام 1545 ميلادية في مدينة بادوفا الإيطالية، والتي كانت آنذاك مركزًا فكريًا وعلميًا ضمن جمهورية البندقية. وقد أنشئت هذه الحديقة كجزء من جامعة بادوفا، إحدى أقدم الجامعات في أوروبا، وكانت الغاية من تأسيسها خدمة أغراض البحث العلمي، لا سيما في مجال دراسة النباتات الطبية.

خلفية تاريخية وتأسيس الحديقة

نشأت الحاجة إلى إنشاء حديقة نباتية علمية نتيجة توسع استخدام النباتات في الطب والصيدلة خلال عصر النهضة، حيث تزايدت أهمية دراسة النباتات وفهم خصائصها الطبية والبيئية بدقة علمية. قبل تأسيس الحديقة، كانت المعارف النباتية تعتمد إلى حد كبير على كتب تراثية دون التحقق من دقتها ميدانيًا، مما أدى إلى انتشار الأخطاء والتشويش في تصنيف النباتات.

جاء تأسيس “حديقة بادوا النباتية” ليضع حدًا لهذه الفوضى المعرفية، وليمثل بداية حقيقية لعلم النبات التجريبي المبني على الملاحظة والتوثيق، حيث سعى الأكاديميون إلى زراعة النباتات في بيئة مراقبة وتدوين ملاحظاتهم بدقة. من هنا كانت الحديقة أول نموذج تطبيقي لفكرة “الحديقة النباتية العلمية” في التاريخ.

التصميم المعماري والدلالة الرمزية

صُممت حديقة بادوا على شكل دائرة تمثل العالم، محاطة بجدار حجري لمنع السرقة التي كانت شائعة في تلك الفترة بسبب قيمة النباتات الطبية. في مركز هذه الدائرة، أنشئت أحواض زراعية على هيئة مربعات هندسية منتظمة تشير إلى الاتجاهات الأربعة الأساسية، ويقطعها ممرات مرصوفة تساعد في سهولة التجوال والدراسة.

احتوى التصميم على رموز فلسفية وعلمية، فعلى سبيل المثال، رُبطت الأحواض المركزية بمفهوم الانسجام الكوني والنظام الطبيعي، وكان يرمز لكل قطاع من الحديقة بموضوع علمي أو طبي معين. مع مرور الزمن، أضيفت إلى الحديقة عناصر جديدة كالأشجار النادرة والبيوت الزجاجية، لكنها حافظت على هويتها الأصلية كمركز علمي وثقافي.

الأهمية العلمية والأكاديمية

تُعد حديقة بادوا النباتية من أوائل المؤسسات التي ساهمت في تأسيس علم التصنيف النباتي قبل ظهور الأعمال الكبرى مثل تصنيفات “لينيوس”. جمعت هذه الحديقة نباتات من مناطق مختلفة من العالم بفضل اتساع نفوذ جمهورية البندقية التجاري، مما ساهم في إدخال العديد من النباتات الغريبة والنادرة إلى أوروبا مثل نبات دواء الأفيون ونبات القهوة ونبات دواء الجنكو.

على مر القرون، لعبت الحديقة دورًا محوريًا في تدريس علم النبات للطلبة والعلماء الأوروبيين، وأسهمت في نشر المعرفة حول تنوع النباتات وخصائصها البيئية والدوائية. وقد عمل في هذه الحديقة نخبة من العلماء مثل البوتاني الإيطالي “أندريا تشيسالبينو” والمستكشف “أنتونيو موساتو”، اللذان خلّدا أسماءهما ضمن تاريخ علم النبات الأوروبي.

دورها في الحفاظ على التنوع البيولوجي

من بين وظائف حديقة بادوا النباتية الأكثر حداثة هو دورها في الحفاظ على الأنواع النباتية المهددة بالانقراض، حيث تحولت من مجرد موقع للتعليم إلى مركز دولي لحفظ التنوع البيولوجي. تحتضن الحديقة أكثر من 6,000 نوع نباتي، بينها أنواع نادرة ومهددة، ويتم العناية بها وفق أحدث أساليب الزراعة البيئية والبستنة المستدامة.

ساهمت الحديقة أيضًا في مشاريع الاتحاد الأوروبي البيئية، وارتبطت بشبكات الحدائق النباتية العالمية مثل شبكة BGCI (Botanic Gardens Conservation International)، ما جعلها جزءًا من الجهد الدولي لحماية النباتات من الانقراض والتغيرات المناخية.

أبرز النباتات التاريخية في الحديقة

من أبرز العناصر النباتية التاريخية التي ما زالت قائمة في الحديقة حتى اليوم، شجرة النخيل المعروفة بـ “نخلة غوته” (Goethe’s Palm) نسبةً إلى الأديب الألماني الشهير “يوهان غوته”، الذي زار الحديقة ودوّن ملاحظاته عن هذه النخلة في كتابه “ميتامورفوز النباتات”. زرعت هذه النخلة عام 1585 وما زالت تنمو حتى اليوم، لتعد أقدم نخلة مزروعة في حديقة أوروبية علمية.

كما توجد نباتات تاريخية أخرى مثل نبات الجنكو بيلوبا (Ginkgo biloba) الذي جلب من آسيا، ويُستخدم في الطب الصيني التقليدي، ونباتات الأفيون والبلادونا والديجيتال التي لعبت أدوارًا رئيسية في تطوير الصيدلة.

إدراج الحديقة في قائمة التراث العالمي

في عام 1997، تم إدراج حديقة بادوا النباتية في قائمة التراث العالمي لليونسكو، تقديرًا لقيمتها العلمية والتاريخية والثقافية الفريدة. وقد وصفتها اليونسكو بأنها “أصل جميع الحدائق النباتية في العالم” لما تمثله من نقطة بداية للمنهج العلمي في دراسة النباتات، إضافة إلى الحفاظ على التراث البيئي والعلمي لأوروبا والعالم.

هذا الاعتراف الدولي عزز من مكانة الحديقة كمقصد سياحي علمي وثقافي، كما شجع على تطوير مرافقها التعليمية والبحثية بما يتماشى مع متطلبات البحث البيئي الحديث.

الحديقة في العصر الحديث

لا تزال الحديقة تمارس دورها التعليمي من خلال البرامج الأكاديمية والورش التي تقدمها بالتعاون مع جامعة بادوفا، كما تستقبل الزوار من جميع أنحاء العالم، وتعرض آلاف الأنواع النباتية في أقسامها المتنوعة التي تشمل:

• الحديقة الطبية: تحتوي على نباتات طبية تاريخية لا تزال تستخدم في الصناعات الدوائية.

• الحديقة البيئية: تركز على النظم البيئية المتنوعة، بما في ذلك النباتات الصحراوية والاستوائية.

• البيوت الزجاجية المناخية: تعرض تنوع البيئات النباتية في العالم من غابات الأمازون إلى الصحارى الأفريقية.

• القسم التعليمي والتوثيقي: يضم قاعدة بيانات وأرشيفًا ضخمًا يضم آلاف العينات المحفوظة منذ قرون.

جدول يوضح تطور الحديقة عبر الزمن

مساهمتها في مستقبل العلم والبيئة

تمثل حديقة بادوا اليوم نقطة التقاء بين الماضي والمستقبل، فهي تحتفظ بهويتها التاريخية المتمثلة في أسوارها الدائرية وأحواضها الأصلية، لكنها تطورت لتصبح مؤسسة حديثة تساهم في أبحاث الجينوم النباتي، وتشارك في برامج عالمية لمواجهة تحديات تغير المناخ وفقدان التنوع الحيوي.

كما تشكل نموذجًا يُحتذى به في كيفية تحويل المؤسسات التاريخية إلى أدوات معاصرة لحماية الكوكب وتعليم الأجيال القادمة. فبين جدرانها القديمة تنبض حياة علمية متجددة، وتُروى قصة طويلة من العشق البشري للمعرفة والنباتات والطبيعة.

المراجع:

1. UNESCO World Heritage Centre. (1997). Botanical Garden (Orto Botanico), Padua – whc.unesco.org

2. Musajo, G. (1971). The Botanical Garden of Padua: its history and scientific role. Medicinal Plants Journal.

3. University of Padua – Orto Botanico di Padova – ortobotanicopd.it

4. Fay, M. (2010). Conservation of rare and endangered plants. Nature Plants.