أفضل وقت للدراسة

أفضل وقت للدراسة

تُعَدُّ مسألة اختيار أفضل وقت للدراسة من أكثر المواضيع التي شغلت الباحثين في مجالات علم النفس التربوي، وعلوم الأعصاب، والتنمية البشرية، وذلك لما لها من تأثير مباشر على الأداء الأكاديمي والقدرة على الحفظ والفهم والاستيعاب. تختلف الآراء حول الوقت المثالي للمذاكرة بين الأفراد، بناءً على عوامل فسيولوجية، ونفسية، وبيئية، إلا أن الدراسات العلمية المتراكمة قد أفرزت مجموعة من النتائج التي تسلط الضوء على الأنماط الزمنية الأكثر ملاءمة للدراسة الفعالة، بالإضافة إلى استراتيجيات يمكن اعتمادها لتعزيز الأداء العقلي بحسب توقيت اليوم.

الإيقاع اليومي للدماغ ودوره في تحديد وقت الدراسة

يعتمد الدماغ البشري على ما يُعرف بـ “الإيقاع اليومي” أو Circadian Rhythm، وهو دورة بيولوجية مدتها 24 ساعة تنظم العمليات الجسدية والعقلية من نوم، واستيقاظ، وإفراز الهرمونات، وتركيز، ويقظة. هذا الإيقاع يؤثر على درجة الانتباه، والقدرة على الاستيعاب، والذاكرة، والاستجابة للمحفزات المعرفية، مما يجعل توقيت الدراسة عاملاً حاسماً في مدى الفاعلية التعليمية.

يتوزع الإيقاع اليومي لمعظم الأشخاص على ثلاث مراحل رئيسية:

الدراسة في الصباح: التعلم وقت صفاء الذهن

يفضّل العديد من الباحثين والمختصين الدراسة في الصباح الباكر، خصوصًا ما بين الساعة 6 إلى 10 صباحًا، حيث يكون الدماغ في قمة نشاطه بعد ساعات النوم التي تساعد على تنقية الذهن وتجديد الخلايا العصبية. وقد أظهرت دراسات تصوير الدماغ أن المناطق المسؤولة عن التحليل والتفكير واتخاذ القرار تكون أكثر فاعلية في هذه الفترة، مما يسهّل التعامل مع المعلومات المعقدة وتثبيت المفاهيم الجديدة.

من مزايا الدراسة الصباحية:

• صفاء الذهن وخلوه من الضغوطات اليومية.

• استقرار نسبة الكورتيزول في الجسم، وهو هرمون يساعد على الانتباه والتركيز.

• انخفاض المشتتات الخارجية مثل ضجيج المنزل أو ضغوط الأعمال.

يُفضّل في هذا الوقت التركيز على المواد العلمية والنظرية التي تتطلب حفظًا وفهمًا متعمقًا مثل الرياضيات، الفيزياء، واللغات الأجنبية.

الدراسة بعد الظهر: فترة انخفاض التركيز

تُعتَبر فترة ما بعد الظهر، الممتدة من الساعة 12 ظهرًا حتى الثالثة مساءً، من الفترات التي تشهد فيها القدرات الذهنية انخفاضًا ملحوظًا، نتيجة تغيرات فسيولوجية طبيعية تتعلق بعملية الهضم، وتقلص نشاط الجهاز العصبي المركزي. وتُظهِر الأبحاث أن هذه الفترة ليست ملائمة لعمليات التعلم الجديدة، بل يمكن استثمارها في مراجعة خفيفة أو تنظيم المهام الأكاديمية.

ورغم أن هذه الفترة غير مثالية، إلا أن بعض الطلاب يفضلون استغلالها في:

• تنظيم الجداول الدراسية.

• مراجعة خفيفة للملاحظات.

• القيام بمهام تعليمية لا تتطلب جهدًا معرفيًا كبيرًا، مثل التلوين أو إعداد الملخصات.

الدراسة المسائية: مراجعة المعلومات وترسيخها

تُعتَبر الفترة المسائية، بين الرابعة والتاسعة مساءً، مناسبة للغاية لمراجعة المعلومات، خاصة للطلاب الذين يشعرون بنشاط أكبر بعد انتهاء التزاماتهم اليومية. ورغم تراجع الأداء العقلي تدريجياً نحو المساء عند البعض، إلا أن آخرين يصنفون أنفسهم كـ “نمط ليلي” أو Night Owls، ما يعني أن ذروة نشاطهم العقلي تكون في ساعات المساء والليل.

من مزايا الدراسة المسائية:

• فرصة للمراجعة وتثبيت المعلومات المكتسبة خلال اليوم.

• بيئة هادئة، خاصة بعد انتهاء الأنشطة اليومية والالتزامات.

• بعض الدراسات تشير إلى أن المذاكرة قبل النوم مباشرةً قد تعزز من ترسيخ المعلومات في الذاكرة طويلة المدى بفضل عملية “التعزيز الليلي” التي تحدث أثناء النوم العميق.

الدراسة في الليل: جدلية السهر والتعلم

على الرغم من الانتشار الواسع لفكرة أن السهر مضر وغير صحي، إلا أن هناك شريحة من المتعلمين، خاصة في سن المراهقة والجامعة، تؤكد أنهم يحققون أفضل إنتاجية في وقت متأخر من الليل. ويعزى ذلك إلى طبيعة الإيقاع البيولوجي لديهم، أو إلى هدوء الليل الذي يوفر بيئة خالية من المشتتات.

ومع ذلك، يجب التنبه إلى الآتي:

• السهر المزمن يؤدي إلى اضطراب الساعة البيولوجية، ما يؤثر سلبًا على الصحة العامة.

• نقص النوم يعيق العمليات العقلية المعقدة، مثل التركيز، والإبداع، وحل المشكلات.

• لا يمكن تعويض نقص النوم بتناول المنبهات أو القهوة، بل يظل الدماغ متأثرًا.

الدراسة الليلية يمكن أن تكون فعالة بشرط وجود نوم كافٍ ومنتظم خلال النهار أو في الصباح التالي، وهو أمر صعب التحقق عند أغلب الأشخاص الذين لديهم التزامات نهارية.

العوامل المؤثرة في تحديد الوقت الأنسب للدراسة

رغم التوصيات العلمية العامة، تبقى الفروق الفردية بين الأشخاص محددًا رئيسيًا في اختيار الوقت الأنسب للدراسة. ومن أبرز العوامل التي تؤثر على هذا الاختيار:

1. النمط البيولوجي (Chronotype)
   
   ينقسم البشر إلى ثلاثة أنماط زمنية:

   • صباحيون: ذروة نشاطهم في الصباح.

   • ليليون: ذروة نشاطهم في الليل.

   • متوازنون: يمكنهم التكيف مع مختلف الأوقات.

2. البيئة المنزلية
   
   بعض الأشخاص لا يستطيعون الدراسة إلا في هدوء تام، وهو ما يتوفر غالبًا في المساء أو الليل.

3. الالتزامات اليومية
   
   مثل العمل أو الدراسة في المدرسة أو الجامعة، قد تفرض على الفرد أوقاتًا معينة للدراسة.

4. نوع المادة الدراسية
   
   فالمواد العلمية والتحليلية تحتاج إلى أوقات صفاء ذهني، بينما المواد الأدبية يمكن دراستها في أوقات أكثر مرونة.

استراتيجيات لتعزيز الدراسة في أي وقت

بغض النظر عن الوقت المختار، فإن فعالية الدراسة ترتبط بمجموعة من العوامل التنظيمية والمعرفية التي يمكن تفعيلها لتعزيز التعلم، ومنها:

• تقنية بومودورو Pomodoro: الدراسة 25 دقيقة، تليها 5 دقائق راحة.

• تقسيم المادة إلى وحدات صغيرة: لتسهيل الاستيعاب وتجنب الإجهاد المعرفي.

• بيئة الدراسة الملائمة: إنارة جيدة، تهوية مناسبة، مقعد مريح.

• تحديد أهداف واضحة لكل جلسة دراسة: ما يعزز الإحساس بالإنجاز.

المقارنة بين أوقات الدراسة المختلفة

خاتمة تحليلية

يتضح من خلال استعراض الدراسات والأدلة الميدانية أن أفضل وقت للدراسة ليس أمرًا واحدًا مطلقًا يصلح للجميع، بل هو مسألة نسبية تتأثر بعدة متغيرات داخلية وخارجية. ومع ذلك، فإن الدراسة الصباحية تُعَدُّ في العموم الخيار الأكثر أمانًا من حيث توافقها مع الإيقاع البيولوجي الطبيعي للإنسان، فيما تصلح الفترة المسائية للمراجعة والتأمل في المعلومات السابقة.

إن تبني الطالب استراتيجية مرنة ومبنية على التجربة الذاتية لتحديد وقت الدراسة الأمثل، مع احترام احتياجاته البيولوجية والتنظيمية، هو الطريق الأكثر فاعلية لتحقيق التميز الأكاديمي على المدى الطويل.

المراجع:

1. Dijk, D. J., & Archer, S. N. (2009). Light, Sleep, and Circadian Rhythms: Together Again. PLOS Biology.

2. Gillen-O’Neel, C., Huynh, V. W., & Fuligni, A. J. (2013). To Study or to Sleep? The Academic Costs of Extra Studying at the Expense of Sleep. Child Development.