طفولة طه حسين ومعاناته

طفولة طه حسين

وُلد طه حسين في 15 نوفمبر 1889 في قرية الكيلو التابعة لمركز مغاغة بمحافظة المنيا، في صعيد مصر، في أسرة بسيطة ولكنها تنتمي إلى طبقة متوسطة من المجتمع المصري. كان والده يعمل موظفًا حكوميًا بسيطًا في القرية، وكان يملك قوامًا اجتماعيًا يحترمه الناس. تربى طه حسين في بيئة تميزت بالتقاليد الريفية العميقة، في زمن كان التعليم فيه نادرًا وصعب الوصول إليه خارج المدن الكبرى. لم يكن يعلم أن حياته ستتخذ مسارًا غير عادي، سيؤثر فيه تأثيرًا كبيرًا على مجريات الفكر العربي في القرن العشرين.

الظروف العائلية والنشأة

عاش طه حسين مع أسرة كبيرة، وكان والداه من المهتمين بتعليمه، رغم التحديات الاجتماعية التي كانت تواجههم. كانت أمه تهتم بتعليمه القراءة والكتابة منذ سن مبكرة. كما أن عائلة طه حسين كانت متدينة، فكانوا يحثونه على تعلم القرآن الكريم، وكان يتمتع بصوتٍ رخيمٍ أثناء تلاوته، وهو ما جعله يحظى بتقدير خاص في مجتمعه الصغير.

وفي سن الرابعة، بدأت التغيرات الكبرى في حياة طه حسين، حيث فقد بصره نتيجة لمرض أصابه في عينيه، وقد تسببت تلك الإصابة في فقدانه للنظر بشكل دائم. كانت تلك الحادثة المحورية في حياته، وخلقت تحديًا كبيرًا أمامه، لكن عزيمته كانت أقوى من أي إعاقة.

تعليمه المبكر في الأزهر

بعد فقدانه للبصر، بدأت حياة طه حسين التعليمية في وقتٍ مختلف عن غيره من الأطفال في قريته. حيث كانت التقاليد الاجتماعية في الريف لا تشجع الأطفال على الالتحاق بالمدارس بشكل عام، خاصة الفتيات وذوي الإعاقات. لكن والداه قررا أن يضعاه في التعليم، فكان أحد أبرز الداعمين له في رحلته التعليمية هي والدته. كانت والدته توفر له كافة الدعم المعنوي، وترافقه دائمًا في رحلاته إلى القاهرة حيث بدأت انطلاقته الحقيقية في مجال التعليم.

التحق طه حسين بالأزهر في سن مبكرة، رغم صعوبة التكيف مع واقع التعليم في الأزهر بالنسبة لفتى أعمى. كان يذهب إلى الأزهر في القاهرة، وهو في سنٍ صغيرة ليبدأ تعلم اللغة العربية والدراسات الدينية. ورغم أن التعليم في الأزهر كان يعتمد في معظمه على الحفظ والتلقين، فإن طه حسين كان يختلف عن باقي الطلاب، فقد كان لديه طموحٌ عميق للوصول إلى المعرفة والبحث عن طرق جديدة لفهم العالم.

الرحلة إلى باريس والتعليم الغربي

كان طه حسين شغوفًا بالعلم، فبدأ في دراسة الأدب العربي واللغة الفرنسية، وبحث في أعمال المفكرين الأوروبيين الذين أحدثوا تغييرًا جذريًا في العديد من المجالات الفكرية والفلسفية. في عام 1913، التحق طه حسين بجامعة مونبلييه في فرنسا، ليواصل دراسته في الأدب والفلسفة. وكانت تلك الفترة محورية في مسيرته العلمية، حيث اطلع على الفلسفات الغربية، ودرس الأدب الفرنسي الكلاسيكي والرومانسي، بالإضافة إلى الأدب الإنجليزي.

مكوثه في فرنسا كان له تأثير عميق على تفكيره، وقد تعلم الكثير عن منهجية البحث العلمي، بالإضافة إلى أنه ازداد فهمه للعقلانية والتنوير. ورغم التحديات التي واجهها في تعلم لغة جديدة في فترة قصيرة، إلا أن طه حسين أثبت قدرته الفائقة على التكيف والنجاح في بيئة أكاديمية معقدة، وهو ما جعله من أول الطلبة المصريين الذين حصلوا على شهادة الدكتوراه من الخارج في الأدب الفرنسي.

تأثير فقدان البصر على فكره

لطالما كانت معاناة طه حسين من فقدان البصر من المواضيع التي لفتت انتباه النقاد والباحثين، لكنها كانت أيضًا جزءًا من ما دفعه إلى التفكير بطرق غير تقليدية. فعلى الرغم من فقدانه للقدرة على الرؤية، فإن قدرته الفائقة على الاستماع والفهم والتحليل جعلته من ألمع المفكرين في عصره. لقد أسهم فقدان بصره في تعزيز قدرته على التركيز في الصوت والكلمة واللغة، الأمر الذي أثر إيجابيًا على قدرته على الاستيعاب الفكري والتفكير النقدي. كان طه حسين ينظر إلى إعاقته على أنها نقطة قوة وليس نقطة ضعف.

أثر الطفولة على تطور شخصية طه حسين

الطفولة بالنسبة لطه حسين كانت نقطة التحول التي شكلت شخصيته الفلسفية والثقافية. فقد عايش طه حسين في طفولته العديد من الصعاب التي جعلته يقدر قيمة التعليم بشكل خاص. كما أن فقدانه للبصر كان له تأثير كبير في توجيه تفكيره إلى ما وراء الحواس المادية، وأدى إلى اكتساب مهارات فكرية لا تتعلق بالرؤية بل بالتحليل العميق والتمعن.

كما أن تربيته في بيئة علمية دينية، ورعايته من قبل والدته، شجعته على تطوير علاقة قوية مع النصوص الأدبية والدينية، وهو ما شكل بعدًا مهمًا في شخصيته الفكرية بعد ذلك. كانت رحلة طه حسين منذ طفولته بمثابة النواة التي نشأت منها رؤيته الفلسفية المتعمقة في الحياة، وحاول من خلالها فهم الحياة والعالم من منظورٍ عقلاني ونقدي.

التحديات التي واجهها في الطفولة

لم تكن رحلة طه حسين الطفولية سهلة، فقد كان يعاني من العديد من التحديات التي تجاوزها بفضل عزيمته وتفانيه في طلب العلم. كان من بين هذه التحديات نقص الإمكانيات التعليمية في الريف المصري، ووجود محدودية في الكتب والدوريات التي كان بإمكانه الوصول إليها. كما أن نظرة المجتمع في تلك الحقبة للأشخاص ذوي الإعاقة كانت نظرة تقليدية ومحدودة، ولكن طه حسين لم يسمح لهذه القيود بأن تعيق تقدمه.

ورغم كل هذه التحديات، كان طه حسين يتمتع بحافز قوي للنجاح، وواصل في بناء مستقبله العلمي، متحديًا العقبات التي كانت في طريقه، وهو ما جعل منه نموذجًا يحتذى به في مجالات العلم والأدب والفلسفة في العالم العربي.

خاتمة

لا شك أن طفولة طه حسين لعبت دورًا محوريًا في تشكيل شخصيته الفكرية والعلمية، فقد كانت مليئة بالتحديات والظروف التي حولت محنته إلى قوة، وصقلت تفكيره بشكل أعمق. يمكن القول إن طه حسين، من خلال معاناته في طفولته، استطاع أن يبني مسارًا علميًا وفكريًا مختلفًا، وضعه في مصاف أعظم المفكرين في العالم العربي، وظل اسمه راسخًا في الذاكرة الأدبية والفكرية للأجيال التي تلت.