أسباب العنف الأسري الشائعة

يُعد العنف الأسري من أخطر الظواهر الاجتماعية والنفسية التي تعاني منها المجتمعات الإنسانية، لما له من آثار مدمّرة على الفرد والأسرة والمجتمع بأسره. لا يقتصر هذا العنف على الضرب أو الإيذاء الجسدي فحسب، بل يشمل أيضًا الإيذاء النفسي واللفظي والجنسي والاقتصادي، ما يجعله مشكلة متعددة الأبعاد والجذور. ولتفسير هذا السلوك العدواني داخل الأسرة، يجب الرجوع إلى ثلاثة محاور رئيسية: الأسباب التربوية، الأسباب النفسية، والأسباب المجتمعية، حيث تتداخل هذه العوامل لتنتج بيئة خصبة لتنامي العنف بمختلف أشكاله.

أولًا: الأسباب التربوية للعنف الأسري

1. النشأة في بيئة عنيفة

يُعد التعرض المبكر للعنف في الطفولة من أهم الأسباب التربوية التي تسهم في تكوين شخصية عنيفة. الأطفال الذين ينشؤون في بيئة تتسم بالصراخ، الضرب، أو الإهمال، يكتسبون هذا السلوك كأسلوب تواصل وحل للخلافات. وغالبًا ما يعيد الأفراد إنتاج هذا النموذج التربوي عندما يصبحون آباءً وأمهات.

2. غياب التربية على الحوار

تُعد التربية القائمة على الأوامر الصارمة والمنع المطلق دون تبرير أو نقاش من العوامل التي تزرع في النفس ميلاً للعنف كوسيلة وحيدة للسيطرة أو فرض الرأي. الطفل الذي لا يُعلَّم مهارات التعبير عن الذات والحوار واحترام الآخر، غالبًا ما يفتقر إلى أدوات التواصل السلمي لاحقًا.

3. التربية الذكورية أو التمييزية

تُسهم بعض الممارسات التربوية القائمة على ترسيخ التفوق الذكوري أو دونية المرأة في تنمية شعور زائف بالهيمنة لدى الذكور، مما يؤدي إلى استخدام العنف كوسيلة لإثبات السيطرة، لا سيما في العلاقات الزوجية والأسرية.

4. الاعتماد على العقاب البدني

اللجوء إلى الضرب كأسلوب تربوي يعزز من شرعية العنف ويجعله سلوكًا مقبولًا ومبررًا لدى الأطفال والمراهقين، مما يؤدي إلى تطبيع هذا السلوك وجعله جزءًا من الحياة اليومية.

ثانيًا: الأسباب النفسية للعنف الأسري

1. اضطرابات الشخصية

يعاني بعض الأفراد من اضطرابات نفسية مثل اضطراب الشخصية الحدية أو النرجسية أو المعادية للمجتمع، وهي اضطرابات تتسم بالاندفاعية، غياب التعاطف، أو ضعف السيطرة على الغضب، ما يجعل أصحابها أكثر ميلًا إلى السلوك العدواني داخل الأسرة.

2. الضغوط النفسية والتوتر

الضغوط الناتجة عن العمل، الأزمات الاقتصادية، الخلافات الزوجية، أو الأمراض النفسية مثل الاكتئاب والقلق، قد تُخرج الفرد عن اتزانه النفسي، وتجعله عرضة للانفجار في وجه من حوله، خصوصًا أفراد أسرته الذين قد يكونون الأضعف والأقرب.

3. الإدمان

يرتبط الإدمان على المواد المخدرة والكحول ارتباطًا وثيقًا بالعنف الأسري، إذ يُفقد الشخص قدرته على التحكم في سلوكه، ويجعله أكثر ميلاً للعدوانية، خصوصًا إذا كان في حالة انسحاب أو تأثير مباشر للمادة المخدرة.

4. ضعف المهارات العاطفية والاجتماعية

غياب الذكاء العاطفي والقدرة على التعبير عن المشاعر أو تفهّم مشاعر الآخرين يساهم في تفسير التصرفات العفوية أو المشكلات الأسرية بطريقة عدوانية، وبالتالي اللجوء إلى العنف كرد فعل دائم.

ثالثًا: الأسباب المجتمعية للعنف الأسري

1. الثقافة المجتمعية السائدة

تُعد الثقافة التي تبرر العنف ضد المرأة أو الأطفال أو تراه شأناً عائلياً لا يجوز التدخل فيه، من أهم الأسباب التي تعزز استمرار العنف الأسري. كثير من المجتمعات تكرّس ثقافة الصمت والتواطؤ، وتمنع الضحايا من طلب المساعدة.

2. ضعف التشريعات أو تطبيقها

في بعض البيئات، إما تغيب التشريعات التي تجرّم العنف الأسري بشكل واضح، أو لا يتم تطبيقها بحزم. هذا التراخي القانوني يخلق بيئة يشعر فيها المعتدي بالأمان من العقاب، ويُشجَّع ضمنيًا على الاستمرار في سلوكه.

3. العوامل الاقتصادية والاجتماعية

الفقر، البطالة، تدني مستوى التعليم، والضغوط الاقتصادية المتراكمة تسهم جميعها في تأجيج الصراعات الأسرية، حيث تتحول الأسرة إلى ساحة لتفريغ الإحباط والغضب، ويكون العنف أحد المظاهر المتكررة لهذا التفريغ.

4. الصورة النمطية للعلاقات الأسرية

تروّج وسائل الإعلام في بعض الأحيان لصورة تقليدية للعلاقة بين الزوج والزوجة أو بين الآباء والأبناء، حيث تُشرعن السيطرة والسلطة المطلقة لأحد الأطراف، ما يؤدي إلى قبول العنف باعتباره “تأديبًا” أو “رجولة”.

جدول توضيحي للعوامل المؤدية إلى العنف الأسري حسب التصنيف

آثار العنف الأسري

إن العنف الأسري لا يقتصر أثره على لحظة حدوثه، بل يخلف جراحًا عميقة وطويلة الأمد على المستويين النفسي والاجتماعي. فهو يؤدي إلى تدهور العلاقات داخل الأسرة، تفكك الروابط العائلية، شعور الضحية بالعار أو الذنب أو الخوف، وظهور اضطرابات مثل الاكتئاب، القلق، واضطراب ما بعد الصدمة. كما يخلق بيئة غير مستقرة للأطفال تنعكس على تحصيلهم الدراسي وسلوكهم الاجتماعي.

أهمية التوعية والوقاية

مواجهة العنف الأسري تبدأ من خلال برامج توعية شاملة تستهدف جميع أفراد المجتمع، وتعمل على تفكيك القيم الثقافية التي تشرعن العنف، وتدريب الآباء والأمهات على التربية الإيجابية. كما يجب توفير خدمات دعم نفسي وقانوني للضحايا، وتطوير آليات فعالة للتبليغ والتدخل المبكر.

دور المؤسسات في الحد من العنف الأسري

تلعب المؤسسات التربوية والدينية والإعلامية دورًا محوريًا في الحد من هذه الظاهرة، من خلال نشر ثقافة التسامح، وتعليم مهارات التواصل الإيجابي، وتقديم نماذج أسرية ناجحة. كما يجب أن يكون للدولة دور حازم في سن قوانين تحمي الأفراد من العنف داخل الأسرة، وتُجرّم مرتكبيه بوضوح.

الخلاصة

العنف الأسري ظاهرة متعددة الأوجه، تنبع من تفاعل معقد بين عوامل تربوية ونفسية ومجتمعية. ولا يمكن فهم هذه الظاهرة أو معالجتها دون تفكيك هذه العوامل والتعامل معها بصورة متكاملة وشاملة. فكل عنف ممارس داخل الأسرة هو تهديد مباشر للبنية الاجتماعية، واستمرار التغاضي عنه يعني تفشي ظاهرة تهدد الأمن النفسي والاجتماعي للأجيال القادمة.

المراجع

• منظمة الصحة العالمية (WHO). Violence Against Women Fact Sheet, 2022.

• المجلس القومي للطفولة والأمومة – مصر. تقارير العنف الأسري في المجتمع المصري، 2020.

• روان، نبيل. علم النفس الأسري. دار الفكر العربي، 2017.

• اليونسيف. تقرير العنف ضد الأطفال في العالم العربي. 2019.