أعظم نعمة بعد الإسلام

أفضل نعمة بعد الإسلام

من بين النعم التي يغمر الله بها عباده، تتصدر نعمة الإسلام قائمة الهبات الربانية العظمى التي لا يعادلها شيء، فبها اهتدى الإنسان إلى طريق الله، وارتبط قلبه بالسماء، وتطهرت روحه من رجس الشرك والجهل. ولكن بعد نعمة الإسلام، تتوالى النعم وتتفاوت، وتبقى هناك نعمة تتبوأ مكانة سامية، وتُعد في ميزان العقلاء والمؤمنين من أعظم ما يُعطى للعبد بعد هدايته إلى الإسلام، وهي نعمة العقل، التي بها يدرك الإنسان الحقائق، ويُميز بين الخير والشر، ويختار بين الفلاح والضياع.

العقل: تاج النعم البشرية

العقل هو الأساس الذي تقوم عليه التكليفات الشرعية، وهو مناط التمييز في التشريع الإلهي. فالشارع الحكيم لم يخاطب المجنون، ولم يُلزم غير العاقل بتكاليف، وهذا يدل على عظمة هذه النعمة ومكانتها. قال النبي صلى الله عليه وسلم: “رُفِع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل”. فبهذا الحديث يظهر أن العقل هو منطلق المسؤولية والجزاء، وبدونه يسقط التكليف.

العقل لا يعني مجرد القدرة على التفكير، بل يتعدى ذلك إلى كونه وسيلة لفهم الدين، والتأمل في الخلق، ومعرفة الله، واستيعاب مقاصد الشريعة، والتفكر في آيات الكون والوجود. إن العقل هو النور الذي به يُرى الحق من الباطل، وهو وسيلة الهداية الثانية بعد الوحي.

المقارنة بين العقل وسائر النعم الدنيوية

لو تأمل الإنسان في ما حُرم منه البعض من نعم المال، أو الصحة، أو الجاه، لكنه أُعطي عقلاً راجحًا، لرأى كيف يمكن للعقل أن يصنع العجائب، ويعوض عن كل نقص مادي أو جسدي. وعلى النقيض، فإن من أوتي المال والسلطة والصحة، لكنه حُرم من نعمة العقل، فإن تلك النعم تتحول إلى نقمة، وتكون سببًا في هلاكه وضياعه.

من لا عقل له، قد يسرف على نفسه، ويعيش في طيش وتهور، وربما يؤدي بنفسه إلى المهالك، دون أن يدرك أو يشعر. أما العاقل، فإنه يُوازن، ويُدبر، ويُحسن اتخاذ القرار، ويضع الأمور في مواضعها.

العقل أساس الاجتهاد وفهم النصوص

في الفقه الإسلامي، كان دور العقل بارزًا في فهم النصوص وتطبيقها على الوقائع المتغيرة. فالعقل هو الذي يُميز بين النص العام والخاص، ويُدرك مناطات الأحكام، ويربط بين المبادئ الشرعية والواقع المعيش. لولا نعمة العقل، لما أمكن للعلماء أن يستنبطوا الأحكام، ويُفصلوا المسائل، ويُجيبوا عن النوازل.

العقل هو الذي يُدرك مقصد الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، ويدرك أن العبادات ليست مجرد حركات، وإنما شعائر تربوية تهذب النفس، وتُعلي الروح، وتبني المجتمع.

في القرآن الكريم: تمجيد العقل وتعظيمه

القرآن الكريم أكثر من استخدام أدوات العقل، بل خاطب الإنسان في أكثر من مئة موضع يدعوه إلى التفكر، والتدبر، والتعقل، والنظر. ومن ذلك قوله تعالى:

“أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها”

“إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون”

“أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء”

هذه الدعوات الربانية كلها موجهة إلى عقل الإنسان، تدفعه إلى استخدام هذه النعمة في فهم الوجود، والاعتراف بوحدانية الله، وإدراك الحكمة من وراء الشرائع.

العقل والحرية الفكرية

من نعم الله أن العقل لم يُسلب حريته، بل أُعطي مساحة من الاستقلال في التفكير، والاختيار، والنقد، والسؤال. ولهذا حذر الإسلام من التقليد الأعمى، وذم من اتبعوا آباءهم دون تفكير:

“إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون”

فرد عليهم القرآن بإنكار هذا النهج، ودعا إلى إعمال العقل في الاعتقاد والاتباع. إذ لا يُقبل عند الله إيمان مبني على التقليد، دون أن يكون نابعًا من إدراك ووعي.

العقل والأخلاق

العقل هو الأساس الذي تقوم عليه الأخلاق، فالإنسان لا يكون رشيدًا في سلوكه إلا إذا كان عاقلًا. من ضُربت عليه الغفلة، أو تغلبت عليه شهواته، فقد ينهار خلقيًا. أما العاقل، فهو الذي يزن أقواله وأفعاله بميزان الحكمة، فلا يغضب سريعًا، ولا يندم كثيرًا، ويعلم أن الكلمة قد تهدم، وأن الفعل قد يُخلّف أذى طويل الأمد.

ولهذا، فإن كثيرًا من علماء الأخلاق عدّوا العقل أصل الفضائل، إذ لا تتحقق العدالة، والحلم، والكرم، والعفة، والتواضع، إلا من عقل راجح يُدرك مآلات الأمور.

العقل وسلامة الدين

لا يستقيم دين المرء إلا بعقل سليم، فالمجنون لا يُحاسب لأنه لا يفهم، أما من أوتي عقلًا ولم يستخدمه، فهو أشد ما يكون بعدًا عن الدين، حتى وإن تظاهر بالطاعة. إن العقل هو أداة الفهم، وهو مرآة الإيمان الحقيقي، ولذلك ورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “أول ما يُعبد به الرحمن العقل”، لأن من لا عقل له لا يدرك حق الله عليه.

العقل والاختيار الحر

العقل يمنح الإنسان القدرة على اتخاذ قراراته بنفسه، ويُبعده عن التبعية والانقياد الأعمى. ولهذا فإن من أكبر صور الإهانة لكرامة الإنسان أن يُسلب عقله، أو يُمنع من التفكير، أو يُقيد في حريته الذهنية. الإسلام حفظ هذه الكرامة، وأتاح للعقل مجالًا واسعًا للتحليل، والسؤال، والنقد، دون أن يُلغى دوره، بل جعله من أهم أدوات الهداية.

أبرز مكونات العقل البشري

للعقل البشري وظائف متعددة تتكامل فيما بينها لتحقيق الفهم والإدراك، ويمكن تلخيص أبرز مكوناته في الجدول التالي:

آثار غياب العقل

عندما يغيب العقل، تحضر الفوضى، وتغيب الحكمة، وتنهار القيم. المجتمعات التي يُهمل فيها التفكير العقلي، تصبح مرتعًا للخرافة، والجمود، والتطرف. كما أن غياب العقل يؤدي إلى ضعف في الأداء الاجتماعي، وتخلف في ميادين العلم، وتراجع في مسارات التنمية.

وهذا ما نراه جليًا في بعض المجتمعات التي تُقيد حرية التفكير، وتُقدس الموروث دون تمحيص، وتحارب الأسئلة العقلية بحجج واهية. النتيجة دائمًا تكون انحدارًا حضاريًا، وتهميشًا للعلماء، وركودًا فكريًا خطيرًا.

العقل في السنة النبوية

السنة النبوية اعتنت بالعقل عناية خاصة، فأشاد النبي صلى الله عليه وسلم بالعقلاء، ودعا إلى استعمال العقل في التعامل مع الناس، وفي فهم الدين. ومن الأحاديث الدالة على ذلك:

“إنما يُرحم الله من عباده الرحماء، ومن لا يَرحم لا يُرحم”

“أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا”

فهذه الأحاديث تؤكد أن الإيمان لا يكتمل إلا بالعقل الذي يُنتج خلقًا حسنًا وسلوكًا متزنًا. وقد كان النبي يحاور الناس بالعقل، ويُقنعهم بالحجة، ويبتعد عن الغلو في الطرح، مما يُظهر عظمة استخدامه للعقل في الدعوة والتعليم.

أهمية العقل في تقدم الحضارات

كل حضارة قامت على العلم، قامت أولًا على العقل. لم يكن العلم ليُزهر في ظل تغييب التفكير العقلي، ولذلك فإن المجتمعات التي احترمت عقول أبنائها، وفتحت لهم أبواب الإبداع والتفكير، كانت أسرع في التطور، وأثبت في البناء. أما تلك التي قمعت العقل، فقد بقيت في دوائر التخلف، ولو امتلكت الثروات.

الحضارة الإسلامية مثال على ذلك، حيث ازدهرت العلوم كالرياضيات، والطب، والفلك، والفلسفة، نتيجة لنهضة عقلية أطلقت العنان للعقل المسلم أن يبدع، ويبتكر، ويناقش، ويُبدع في إطار العقيدة والشرع.

الختام

بعد نعمة الإسلام، التي تمثل قمة الهداية الإلهية، تأتي نعمة العقل في مرتبة عظيمة، لما لها من دور محوري في فهم الدين، وتطبيق الشريعة، وتقدم الإنسان في سلوكه، وفهمه، وتطوره العلمي. العقل هو أداة الهداية، ونور البصيرة، وأساس الرشد، وبدونه لا تستقيم حياة ولا يُبنى مجتمع.

ولذلك، كان شكر نعمة العقل واجبًا كما يُشكر نعمة الإسلام، وكان من شكرها أن تُستخدم في الخير، وفي الحق، وفي خدمة البشرية، لا أن تُسخّر في الشرور، أو تُجمد بالتقليد، أو تُغيب بالهوى.

المراجع:

1. ابن القيم، مفتاح دار السعادة، دار الكتب العلمية.

2. الإمام الغزالي، إحياء علوم الدين، دار المعرفة.