تعدد المهام هو هدر للإنتاجية: إليك كيفية منع موظفيك من القيام به

في بيئة العمل المعاصرة التي تتسم بالسرعة والتحديات المتلاحقة، يظن كثير من المديرين والموظفين أن القدرة على أداء مهام متعددة في الوقت ذاته هي مهارة أساسية لتحقيق النجاح. تُروَّج لفكرة “تعدد المهام” باعتبارها وسيلة لتعظيم الأداء وإنجاز المزيد في وقت أقل. لكن الأبحاث الحديثة والتجارب العملية أثبتت بما لا يدع مجالًا للشك أن هذه الفكرة ليست سوى وهمٍ يهدد الإنتاجية ويُضعف جودة العمل، بل ويرهق العقل ويُبدد التركيز.

في هذا المقال المطول والموسع، سنستعرض الأسباب العلمية والسلوكية التي تجعل من تعدد المهام خطراً على الأداء المهني، ثم نناقش الاستراتيجيات الفعالة التي ينبغي على القادة والمديرين تبنيها لمنع موظفيهم من الوقوع في هذا الفخ الذهني، والحفاظ على بيئة عمل ترتكز على التركيز العميق والإنتاج المستدام.

أولاً: المفهوم الحقيقي لتعدد المهام

غالباً ما يُساء فهم مصطلح “تعدد المهام”. في السياق البشري، لا يعني هذا أن الشخص يمكنه تنفيذ أكثر من مهمة عقلية معقدة في آن واحد، بل يعني في الواقع التنقل السريع بين المهام المختلفة. هذا التنقل يُعرف علميًا باسم “Task Switching” أو التبديل بين المهام، وهو ليس فقط عملية مرهقة للعقل بل تؤدي أيضاً إلى استنزاف موارد الانتباه والطاقة الذهنية.

وفقاً لدراسة نشرها مركز جامعة ستانفورد للأبحاث السلوكية، فإن الأشخاص الذين يحاولون العمل على أكثر من مهمة في الوقت نفسه، يعانون من ضعف القدرة على تنظيم الأفكار، ويُظهرون معدلات أعلى من الأخطاء، ويحتاجون إلى وقت أطول لإكمال المهام مقارنة بمن ينجزونها تباعاً.

ثانياً: التأثيرات السلبية لتعدد المهام على الموظفين

1. انخفاض جودة العمل

عندما ينتقل الموظف من مهمة إلى أخرى بسرعة، فإنه يُفقد عقله القدرة على الوصول إلى حالة “التركيز العميق”، وهي الحالة الذهنية التي يرتفع فيها الأداء ويُنتج العقل أفكاراً ذات جودة عالية. تعدد المهام يُبقي العقل في وضعية سطحية من الانتباه تمنع الوصول إلى الأداء الأمثل.

2. زيادة معدل الأخطاء

في بيئات العمل التي تتطلب الدقة مثل البرمجة، المحاسبة، التصميم، أو حتى خدمة العملاء، فإن تعدد المهام يؤدي إلى ارتكاب أخطاء يمكن أن تكون مكلفة على المدى القصير والطويل. كل خطأ قد يتطلب وقتًا إضافياً لتصحيحه، مما يُبطل الادعاء بأن تعدد المهام يوفر الوقت.

3. الإجهاد العقلي والنفسي

أدمغة البشر غير مصممة للتعامل مع مطالب متعددة في الوقت ذاته. يُؤدي التبديل المستمر بين المهام إلى إرهاق الجهاز العصبي وزيادة مستويات هرمون الكورتيزول، مما يسبب شعوراً بالتوتر والقلق، وربما يقود إلى متلازمة الاحتراق الوظيفي Burnout.

4. فقدان التركيز والانتباه

التحفيز الزائد الناتج عن المهام المتعددة يدفع العقل إلى التشتت المستمر، ما يُضعف من قدرة الموظف على التركيز لفترات طويلة. هذا التشتت يقتل الإبداع ويمنع التفكير الاستراتيجي اللازم لتطوير العمل.

ثالثاً: لماذا يُشجَّع الموظفون على تعدد المهام دون وعي؟

رغم أضرار تعدد المهام المثبتة، إلا أن كثيرًا من البيئات المؤسسية تُشجّع الموظفين، دون قصد، على تبني هذا السلوك. من بين الأسباب:

• ضغط الإنجاز السريع: عندما يُكلف الموظف بعدة مهام في وقت ضيق، يشعر بالحاجة إلى العمل عليها جميعًا دفعة واحدة.

• ثقافة التواجد المستمر: الرد الفوري على الإيميلات، الرسائل، المكالمات، والإشعارات، يقطع تركيز الموظف بشكل دائم.

• سوء إدارة الوقت من قبل الإدارة: غياب التخطيط وغياب الأولويات في توزيع المهام يدفع الموظفين إلى التشتت.

• توقعات غير واقعية من الإدارة: اعتقاد الإدارة أن الموظف الجيد هو من يعمل على عدة جبهات في الوقت نفسه، هو أمر يؤدي إلى توجيه الموظف نحو تعدد المهام قسرًا.

رابعاً: استراتيجيات فعالة لمنع تعدد المهام داخل فريق العمل

1. تثقيف الموظفين بمخاطر تعدد المهام

أول خطوة هي التوعية. يجب أن يفهم الموظفون والمديرون على حد سواء أن تعدد المهام لا يُعَدُّ فضيلة بل خطراً. يمكن تنظيم ورش عمل أو مشاركة مقاطع فيديو تعليمية أو أوراق بحثية تشرح التأثيرات السلبية لهذا السلوك.

2. فرض قاعدة “مهمة واحدة في كل مرة”

وضع سياسات داخلية تشجع على التركيز على مهمة واحدة فقط خلال فترة زمنية محددة. يمكن تبني تقنيات مثل:

• تقنية بومودورو (Pomodoro): وهي تقنية تعتمد على تخصيص فترات زمنية محددة (25 دقيقة مثلاً) للعمل على مهمة واحدة فقط، يليها فاصل قصير.

• تحديد الأولويات يومياً: يساعد الموظفون على معرفة المهام الأكثر أهمية والالتزام بترتيبها دون التنقل العشوائي بينها.

3. إعادة هيكلة جدول الاجتماعات والمقاطع الزمنية

يجب تقليص عدد الاجتماعات غير الضرورية وتحديد فترات خالية من المقاطعات ضمن الجدول اليومي للموظف (Focus Time). يُفضل أن يُترك جزء من اليوم محجوزاً للعمل العميق، ويُمنع فيه إرسال رسائل أو تنظيم اجتماعات.

4. التقليل من المقاطعات الرقمية

تقنيات “التركيز الرقمي” أصبحت ضرورة في بيئة العمل الحديثة. من الممارسات المفيدة:

• تعطيل إشعارات البريد الإلكتروني والشبكات الداخلية خلال فترات العمل العميق.

• استخدام أدوات مثل “Focus Mode” أو “Do Not Disturb”.

• تنظيم الرد على الرسائل وفق جدول معين بدلاً من التفاعل المستمر.

5. إعادة تصميم بيئة العمل لتعزيز التركيز

يُعد الضجيج البصري والسمعي عاملاً أساسياً في تشتت الانتباه. من الحلول:

• توفير مكاتب هادئة للتركيز الفردي.

• استخدام حواجز أو كبائن عمل.

• تقديم سماعات كاتمة للضوضاء لمن يرغب بالتركيز.

خامساً: دور القائد في كسر ثقافة تعدد المهام

المدير هو النموذج الذي يحتذي به الفريق. إذا أصر القائد على الرد على الرسائل أثناء الاجتماعات أو كان يُلقي مهامًا جديدة على الموظفين أثناء قيامهم بأخرى، فإنه يعزز ثقافة تعدد المهام. من الخطوات الإدارية اللازمة:

• إعطاء الوقت الكافي لإنجاز المهام دون ضغط زمني غير واقعي.

• التقدير العلني للموظفين الذين ينجزون مهامهم بجودة عالية وليس بسرعة سطحية.

• إعطاء الأولوية للجودة على الكم في تقييم الأداء.

سادساً: أدوات وتقنيات بديلة لتعزيز الإنتاجية دون تعدد المهام

سابعاً: تأثير تقليل تعدد المهام على أداء الشركة ككل

حين يتم تقليص تعدد المهام على مستوى الفريق أو المؤسسة، تظهر تحولات إيجابية واضحة في الأداء العام:

• ارتفاع مستوى الإنتاجية نتيجة التركيز العميق.

• تحسن جودة المنتجات والخدمات بفضل العمل المتأني.

• انخفاض مستويات الإجهاد والإرهاق المهني.

• زيادة رضا العملاء نتيجة الاهتمام بالتفاصيل والدقة.

• تقدم أسرع نحو الأهداف الاستراتيجية بفعل وضوح الأولويات.

ثامناً: التحدي الأكبر – تغيير الثقافة المؤسسية

ليس من السهل تغيير سلوك متجذر مثل تعدد المهام، خصوصاً حين يكون مدعوماً بثقافة عمل تمجّد “الانشغال الدائم”. لكن هذا التغيير ضروري لبناء مؤسسة صحية وفعالة.

ينبغي البدء بإجراءات صغيرة ومستمرة مثل تشجيع الموظفين على مقاومة التشتت، ثم الانتقال تدريجيًا إلى إعادة هيكلة السياسات الداخلية لدعم التركيز والعمل العميق.

مع الوقت، ومع الإصرار، تتحول هذه الخطوات إلى ثقافة مؤسسية راسخة ترفض تعدد المهام وتقدّر التركيز كقيمة إنتاجية عالية.

المصادر:

1. Rubinstein, J. S., Meyer, D. E., & Evans, J. E. (2001). Executive Control of Cognitive Processes in Task Switching. Journal of Experimental Psychology: Human Perception and Performance.

2. Nass, C., Ophir, E., & Wagner, A. D. (2009). Cognitive Control in Media Multitaskers. Proceedings of the National Academy of Sciences.