أصول عمل المرأة في الإسلام

أصول وثوابت في عمل المرأة

شهدت المجتمعات البشرية تطورًا كبيرًا في أدوار المرأة، خاصة في ما يتعلق بمشاركتها في سوق العمل، حيث أصبحت المرأة عنصرًا فاعلًا في شتى المجالات الاقتصادية والتعليمية والطبية والسياسية. غير أن هذه المشاركة لم تكن بمعزل عن الضوابط والثوابت التي تؤطرها ضمن السياق الثقافي والديني والاجتماعي لكل مجتمع، لا سيما في المجتمعات الإسلامية التي تستند إلى منظومة قيمية متكاملة مستمدة من الشريعة الإسلامية. من هنا، فإن الحديث عن أصول وثوابت في عمل المرأة ليس مجرد نقاش فقهي أو اجتماعي، بل هو إطار تنظيمي يحفظ التوازن بين تمكين المرأة من أداء دورها الفاعل في الحياة العامة، وبين الحفاظ على الخصوصية الأخلاقية والثقافية التي تميز المجتمع.

أولًا: مفهوم عمل المرأة بين الحاجة والضرورة والاختيار

العمل بالنسبة للمرأة ليس فقط مصدرًا للرزق أو وسيلة لتحصيل الدخل، بل قد يكون في كثير من الأحيان تعبيرًا عن كيانها واستقلالها ومشاركتها في بناء المجتمع. وقد أقر الإسلام هذا الحق ضمن ضوابطه، حيث مارست النساء في عهد الرسول ﷺ أعمالًا متعددة، من التعليم والتطبيب إلى التجارة والمشاركة في الحياة العامة.

لكن هذا الإقرار جاء مشروطًا باعتبارات أخلاقية واجتماعية متينة، منها ما يتعلق بالحاجة والضرورة، كأن تكون المرأة هي المعيل الوحيد، أو أن تساهم في تحسين الوضع الاقتصادي للعائلة، ومنها ما يتعلق بالاختيار الشخصي المشروع، مع مراعاة الظروف والسياقات المحيطة.

ثانيًا: المرجعية الشرعية لعمل المرأة

أقرت الشريعة الإسلامية مبدأ عمل المرأة ضمن إطار من القيم والضوابط التي تكفل عدم تعارضه مع الواجبات الأخرى، وعلى رأسها مسؤوليتها داخل الأسرة إن وُجدت. وقد نصت كثير من النصوص على هذا الأمر، ومنها:

• قوله تعالى:

  “للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن” [النساء: 32]
  
  حيث أقرّ الإسلام لكل من الرجل والمرأة حق الكسب والعمل ضمن اختصاصاتهم.

• مارست النساء في العهد النبوي أعمالًا عديدة، وكانت هناك الصحابيات الطبيبات كـ الشفاء بنت عبد الله ورفيدة الأسلمية، وكذلك التاجرات مثل خديجة بنت خويلد رضي الله عنها.

لكن الشريعة وضعت ضوابط واضحة لمنع حصول ضرر أو تجاوزات، وهذه الضوابط تشمل الحجاب، عدم الخلوة، وضبط طبيعة الاختلاط، وتجنب الفتنة، والمحافظة على الأخلاق العامة.

ثالثًا: ضوابط العمل من منظور إسلامي

1. الاحتشام في اللباس والسلوك

من أهم الثوابت أن تلتزم المرأة باللباس الشرعي الذي لا يصف ولا يشف ولا يثير، وهو ما يحقق الغرض الأسمى من اللباس في الإسلام: الحشمة والوقار. كما أن السلوك المهني للمرأة يجب أن يكون منضبطًا، بعيدًا عن التصنع أو الخضوع في القول، مصداقًا لقوله تعالى:

“فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض” [الأحزاب: 32]

2. طبيعة العمل نفسه

ينبغي أن يكون العمل مشروعًا في ذاته، فلا يصح للمرأة العمل في بيئات تعرضها للتبرج أو تقتضي تقديم خدمات تخالف الأحكام الشرعية كالمشاركة في الترويج لما هو محرم أو العمل في أماكن يكثر فيها الفساد أو المخالفات الأخلاقية.

3. عدم التسبب في تضييع الحقوق الأسرية

من ثوابت عمل المرأة في الإسلام ألا يتسبب عملها في إهمال مسؤولياتها الأسرية الأساسية، لا سيما في حال كونها أمًا أو زوجة، حيث يُنظر إلى هذه المسؤوليات بوصفها أمانة عظيمة.

4. تجنب الخلوة والاختلاط المحرم

منع الإسلام الخلوة بين المرأة والرجل الأجنبي، وأجاز الاختلاط في حدود الضرورة والمصلحة، ووفق ضوابط صارمة. لذلك فإن العمل في بيئة مختلطة يجب أن يكون منضبطًا وفق القواعد الشرعية دون تجاوز.

رابعًا: المرأة والتعليم والعمل في المهن النوعية

من أبرز المجالات التي برزت فيها المرأة خلال العقود الأخيرة مجال التعليم والصحة، لما في ذلك من حاجة اجتماعية، خاصة في البيئات المحافظة التي قد تحتاج فيها النساء إلى طبيبات ومعلمات. وقد حثّت الشريعة على التعليم والتداوي، ولا شك أن وجود المرأة في هذه المهن يسد فجوة كبيرة، وهو دور لا يقل أهمية عن أي عمل آخر.

ونظرًا لارتباط هذه المجالات بالعناية بالإنسان، فإنها تتطلب من المرأة التخصص، الاحتراف، والالتزام بقواعد المهنة، فضلًا عن الضوابط الشرعية التي لا تنفك عنها.

خامسًا: أثر عمل المرأة على المجتمع

أ) اقتصاديًا

مشاركة المرأة في سوق العمل تسهم في رفع الإنتاج المحلي، وتقليل نسب البطالة، وتحقيق الاكتفاء الذاتي لدى الأسر. وفي حالات كثيرة كانت المرأة ركيزة مالية أساسية في دعم الأسرة.

ب) اجتماعيًا

عمل المرأة يمكن أن يسهم في تعزيز وعيها الثقافي والاجتماعي، وتوسيع أفقها المعرفي، مما يجعلها أكثر قدرة على التأثير الإيجابي في محيطها الأسري والمجتمعي.

ج) ثقافيًا وتربويًا

المرأة العاملة تنقل إلى أبنائها نموذجًا إيجابيًا للجد والاجتهاد وتحقيق الذات، وهو ما يعزز بناء جيل قادر على تحمّل المسؤوليات.

سادسًا: التحديات المعاصرة أمام عمل المرأة

رغم التحولات الإيجابية التي شهدتها مسارات عمل المرأة، إلا أن ثمة تحديات حقيقية ما تزال تواجهها، ومنها:

1. التمييز الوظيفي والجندري

تواجه العديد من النساء حول العالم قيودًا تتعلق بالتمييز في الأجور، الترقية، والفرص المتاحة، وهو ما يعكس إشكالات في بنية النظام المهني.

2. ضغوط التوفيق بين الأسرة والعمل

الكثير من النساء يعانين من الضغط النفسي والاجتماعي في محاولة التوفيق بين دورهن المهني ودورهن الأسري، خاصة في غياب بيئة داعمة من الأزواج أو المؤسسات.

3. التحرش في أماكن العمل

يُعد التحرش المهني أحد أكثر التحديات التي تواجهها المرأة، وقد يدفع بعض النساء للعزوف عن العمل، ما لم تتوفر بيئة قانونية صارمة للحماية والردع.

4. تشويه صورة عمل المرأة في الإعلام

تعاني المجتمعات من نماذج إعلامية تصور عمل المرأة إما في صورة سطحية مادية، أو تغري بها وتبتعد عن دورها القيمي، مما يشتت وعي الفتيات حول ماهية النجاح المهني الحقيقي.

سابعًا: المرأة والعمل في ضوء التحولات الرقمية

مع التحولات الرقمية، ازدادت فرص عمل المرأة، خاصة من خلال ما يُعرف بـ”العمل عن بعد” و”العمل الحر”، مما أتاح لها التوفيق بين المهام الأسرية والمهنية.

وقد برزت المرأة في مجالات عديدة مثل:

• الكتابة الرقمية والمحتوى.

• التجارة الإلكترونية.

• التصميم الجرافيكي والبرمجة.

• التدريب الإلكتروني والتعليم عن بعد.

هذا النوع من الأعمال يعزز من استقلال المرأة ويقلل من المخاطر المرتبطة بالاختلاط أو الانتقال الجغرافي، مما يجعله خيارًا مثاليًا لكثير من النساء في البيئات المحافظة.

ثامنًا: دور التشريعات والسياسات الوطنية في تنظيم عمل المرأة

اعتمدت العديد من الدول العربية والإسلامية سياسات تهدف إلى تنظيم عمل المرأة بما يحفظ لها كرامتها وحقوقها، ومن أبرز هذه السياسات:

• سنّ قوانين تمنع التحرش.

• فرض إجازات أمومة مدفوعة الأجر.

• تشجيع ريادة الأعمال النسائية.

• توفير مراكز حضانة في أماكن العمل.

كل هذه التشريعات تعكس إدراكًا متزايدًا لدور المرأة المحوري في التنمية، وضرورة تهيئة بيئة عمل ملائمة ومحفزة لها.

تاسعًا: العمل التطوعي والإنساني كأحد روافد العمل النسائي

المرأة لا تقتصر مشاركتها المجتمعية على العمل المأجور فقط، بل كانت لها بصمات بارزة في ميدان العمل التطوعي، خاصة في مجالات رعاية الأيتام، الأسر المحتاجة، التعليم الشعبي، والأنشطة البيئية والصحية.

وقد شكّل هذا النوع من العمل مجالًا خصبًا لتعزيز الانتماء المجتمعي والقيم الأخلاقية لدى النساء، مما يكرّس الوعي العميق بأهمية الدور الذي تقوم به.

عاشرًا: المرأة القيادية وصناعة القرار

دخلت المرأة مجالات القيادة والإدارة والسياسة، وتولت مناصب مؤثرة مثل الوزارة، النيابة، مجالس الشورى والبلديات. هذه التطورات لم تأت من فراغ، بل تعكس كفاءة ووعيًا ناضجًا استطاعت المرأة من خلاله أن تثبت ذاتها ضمن الإطار المؤسسي. ومع هذا، تظل الأصول الشرعية حاكمة لكل هذه الأدوار دون تعارض.

جدول: مقارنة بين العمل التقليدي والعمل المرن للمرأة

خاتمة

عمل المرأة في الإسلام ليس محلًا للجدل في ذاته، بل هو منظومة متكاملة تتطلب ضبطًا وانضباطًا، توازنًا واستيعابًا للثوابت. بين الأمانة والاحتراف، وبين القيم والمصلحة، تواصل المرأة مسيرتها في البناء المجتمعي، وهي مسيرة لا تُقاس فقط بما تحققه من إنجازات مهنية، بل بما تحققه من اتساق مع القيم التي تحفظ للأمة تماسكها وهويتها.

المراجع:

1. يوسف القرضاوي، “الفتوى بين الانضباط والتسيب”، دار الشروق.

2. وهبة الزحيلي، “الفقه الإسلامي وأدلته”، دار الفكر.