أصل تسمية التاريخ الميلادي

يُعدّ التاريخ الميلادي أو التقويم الميلادي (Gregorian Calendar) النظام الزمني الأكثر انتشاراً واستخداماً في العالم اليوم، سواء في الشؤون الرسمية للدول، أو في المعاملات اليومية للأفراد والمؤسسات. لكن ما الذي يجعل هذا التقويم يحظى بهذه الأهمية؟ وما السبب وراء تسميته بـ”الميلادي”؟ إن فهم أصل التسمية يفتح الباب للتعرف على خلفية دينية وتاريخية معقّدة، تعود لآلاف السنين، وتكشف كيف لعبت الأديان، والسلطة البابوية، والعلم الفلكي، والتاريخ السياسي أدواراً متداخلة في تشكّل هذا النظام الزمني.

أصل التسمية: ارتباطه بميلاد المسيح

السبب الأساسي وراء تسمية هذا التقويم بـ”الميلادي” هو ارتباطه الوثيق بولادة السيد المسيح عيسى بن مريم عليه السلام. فقد اختير هذا الحدث العظيم كنقطة بداية لهذا التقويم، فصار يُطلق عليه “التقويم الميلادي” أو “التقويم المسيحي” (Christian Calendar). جاء هذا النظام كتطوير للتقويم اليولياني الذي وُضع في زمن الإمبراطورية الرومانية، لكن التعديل الأهم وقع لاحقاً في عهد البابا غريغوريوس الثالث عشر في القرن السادس عشر، لتتم تسميته بـ”التقويم الغريغوري”.

البداية من عام الميلاد المفترض

التقويم الميلادي يبدأ من السنة التي قُدّر أنها سنة ولادة السيد المسيح، رغم أن هناك جدلاً واسعاً بين المؤرخين حول دقة هذا التحديد. ويُقال إن الراهب “ديونيسيوس الصغير” (Dionysius Exiguus) هو أول من حدد سنة ميلاد المسيح كنقطة بدء للتقويم، في القرن السادس الميلادي، عندما طُلب منه إعداد جداول لتحديد تاريخ عيد الفصح.

وقد اعتمد ديونيسيوس على سجلات تاريخية دينية وشخصية من أجل حساب السنة التي وُلد فيها المسيح، لكنه أغفل حساب بعض السنوات الخاصة بحكم الإمبراطور أوغسطس قبل تبنيه اسم أغسطس، مما أدى إلى تقدير غير دقيق. ومع ذلك، ظل التاريخ الذي وضعه أساساً لما صار لاحقاً يسمى بالتقويم الميلادي، وانتشر مع توسّع الكنيسة المسيحية في أوروبا.

من التقويم الروماني إلى التقويم اليولياني

قبل ظهور التقويم الميلادي، كانت الإمبراطورية الرومانية تعتمد على ما يُعرف بـ”التقويم الروماني القديم”، والذي عُرف بفوضويته واختلافه من منطقة لأخرى، إلى أن جاء يوليوس قيصر سنة 46 ق.م ليضع تقويماً أكثر دقة سُمّي بالتقويم اليولياني (Julian Calendar). وقد استعان في ذلك بعلماء الفلك المصريين، خاصة أولئك العاملين في مدينة الإسكندرية، حيث كان التقويم المصري متطوراً في حساب السنة الشمسية.

التقويم اليولياني اعتبر السنة الشمسية تساوي 365.25 يوماً، وأضاف يوماً كل أربع سنوات ليعادل الفارق (السنة الكبيسة). واستمر هذا التقويم معتمداً في أوروبا حتى نهاية القرن السادس عشر، لكنه تراكم فيه خطأ زمني بنحو 11 دقيقة كل عام، ما أدّى إلى تراكب الفارق مع الزمن الحقيقي بنحو 10 أيام.

الإصلاح الغريغوري

في عام 1582، قام البابا غريغوريوس الثالث عشر بإجراء تعديل على التقويم اليولياني لتصحيح هذا الانحراف الزمني. فأمر بحذف 10 أيام من التقويم، وأعلن أن يوم 4 أكتوبر 1582 سيليه يوم 15 أكتوبر مباشرة، وبهذا أصبح يُعرف النظام الجديد بـ”التقويم الغريغوري”، وهو الشكل الحديث لما نعرفه اليوم بـ”التقويم الميلادي”.

كما وضع هذا الإصلاح قواعد جديدة للسنة الكبيسة، حيث تقرر أن تُعتبر السنة كبيسة إذا كانت تقبل القسمة على 4، إلا إذا كانت تقبل القسمة على 100 ولا تقبل على 400. أي أن سنة 1600 كانت كبيسة، أما سنة 1700 و1800 و1900 فلم تكن كبيسة، لكن سنة 2000 كانت كبيسة، وفقاً لهذه القاعدة.

التقويم الميلادي والعالم الإسلامي

رغم أن التقويم الميلادي يرتبط في الأصل بعقيدة مسيحية، إلا أنه أضحى لاحقاً تقويماً مدنياً تُعتمده الدول بغض النظر عن دينها، ومن بينها الدول الإسلامية. فقد اعتمدته معظم الدول الإسلامية لأغراض إدارية وتوثيقية ومحاسبية، بينما ظل التقويم الهجري مستخدماً لأداء الشعائر والعبادات الدينية مثل الصوم والحج.

ويُلاحظ أن معظم الدول الإسلامية تعتمد التقويم الميلادي في مؤسساتها الحكومية، بينما يُستخدم التقويم الهجري في المناسبات الدينية والرسمية. وقد أدى هذا الازدواج في بعض الحالات إلى الحاجة إلى تقاويم مزدوجة تُظهر التاريخين معاً، خاصة في الوثائق الرسمية.

الفرق بين “الميلادي” و”السنة الشمسية”

من المهم التمييز بين مصطلحين كثيراً ما يُستخدمان بشكل متبادل خطأً: “التقويم الميلادي” و”السنة الشمسية”. فبينما يشير الأول إلى نظام زمني محدد يبدأ من ميلاد المسيح، فإن الثاني يشير إلى الزمن الذي تستغرقه الأرض لتكمل دورة كاملة حول الشمس، وهو معيار فلكي لا علاقة له بتسمية أو ديانة.

وعليه، فإن جميع التقاويم الشمسية — سواء كانت الميلادية، الفارسية، أو القبطية — تعتمد على حركة الشمس كنقطة أساس، لكن التاريخ الميلادي يتميز بانطلاقه من لحظة ميلاد السيد المسيح كمرجع زمني.

الجدول الزمني لتطور التقويم الميلادي

التقويم الميلادي في الأنظمة القانونية والتجارية

مع دخول العصر الحديث وتزايد الاعتماد على المؤسسات القانونية، المالية، والتجارية الدولية، أصبح من الضروري اعتماد تقويم موحّد عالمي يُستخدم لتحديد العقود، الجداول الزمنية، والخطط الاستراتيجية. وهكذا اكتسب التقويم الميلادي صبغة قانونية رسمية في أغلب دول العالم، وأصبح يُستخدم في تسجيل المواليد والوفيات، مواعيد الجلسات القضائية، الاتفاقيات الدولية، والوثائق المالية.

التسمية في اللغة العربية

في اللغة العربية، يُستخدم مصطلح “ميلادي” للدلالة على هذا التقويم، وقد تُرفق به عبارات مثل “بعد الميلاد” (م. أو م.م) و”قبل الميلاد” (ق.م)، وهذه المصطلحات تُشير إلى السنوات التي سبقت وتلت ولادة السيد المسيح. وتُستخدم هذه العبارات في السياقات التاريخية والأثرية لتحديد التسلسل الزمني للأحداث.

من التقويم الديني إلى المدني

رغم أن أساس التسمية يعود إلى حدث ديني محوري، إلا أن مرور الزمن واختلاط الثقافات أدى إلى فصل هذا التقويم عن البعد الديني في الاستخدام اليومي. فقد أصبح التاريخ الميلادي مجرد أداة تنظيمية لحساب الزمن، ولم يعد يرتبط في ذهن العامة بالعقيدة المسيحية كما كان في العصور الوسطى.

وقد ساعد على ذلك طبيعة العولمة والأنظمة الإدارية الحديثة، التي تتطلب توحيد المعايير الزمنية، بحيث أصبح من النادر أن يُستخدم أي تقويم آخر غير الميلادي في السياقات الدولية.

الخلاصة

إن تسمية التقويم الميلادي تعود إلى ربط بدايته بميلاد السيد المسيح، وهو ارتباط تاريخي وديني في أصله، لكنه أصبح بمرور الزمن أداة زمنية مدنية عالمية. وقد مر هذا التقويم بمراحل إصلاحية مهمة، أبرزها الإصلاح الغريغوري، وهو اليوم التقويم الرسمي في معظم دول العالم. وبينما تختلف التقاويم باختلاف الثقافات والأديان، يبقى التقويم الميلادي المثال الأوضح على كيفية تداخل الدين والعلم والسياسة في صياغة أدوات البشر لتنظيم حياتهم.

المراجع:

1. Blackburn, B. & Holford-Strevens, L. (1999). The Oxford Companion to the Year. Oxford University Press.

2. Richards, E. G. (1998). Mapping Time: The Calendar and its History. Oxford University Press.

3. Meeus, J. (1991). Astronomical Algorithms. Willmann-Bell Inc.

4. مقالات وموسوعات تاريخية منشورة في موقع Britannica وEncyclopedia.com.

5. المصادر الدينية المسيحية حول حياة السيد المسيح وسنوات ميلاده المتوقعة.