أصل الحجر الأسود في الإسلام

أصل الحجر الأسود

يُعد الحجر الأسود من أعظم الشعائر التي يُوليها المسلمون قداسة وتكريمًا في بيت الله الحرام، فهو حجر مبارك، له شأن عظيم في الإسلام وتاريخ فريد لا يُشبهه أي حجر آخر في الكون. يتوسط الحجر الأسود الركن الجنوبي الشرقي للكعبة المشرفة، ويقع على ارتفاع متر ونصف تقريبًا عن الأرض، وهو الموضع الذي يبدأ منه الطواف حول الكعبة، ويُسنّ استلامه وتقبيله اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم. غير أن السؤال عن أصل هذا الحجر المبارك وتكوينه وسبب قدسيته قد أثار اهتمام العلماء والمؤرخين والمفسرين، وتعددت حوله الروايات والتفسيرات.

أصل الحجر الأسود من الناحية الإسلامية

وفقاً للعقيدة الإسلامية، فإن أصل الحجر الأسود من الجنة. جاء في الحديث الصحيح عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم: “نزل الحجر الأسود من الجنة، وكان أشد بياضاً من اللبن، فسودته خطايا بني آدم” (رواه الترمذي وأحمد). وهذا الحديث يُبيّن أن هذا الحجر لم يكن في أصله أسود، بل كان أبيض شديد الصفاء والبهاء، لكن مع الزمن وكثرة خطايا بني آدم تغير لونه إلى السواد.

ومعنى هذا أن الحجر الأسود ليس كغيره من الحجارة الأرضية، بل له أصل سماوي نزل به جبريل عليه السلام إلى إبراهيم عليه السلام حين كان يُشيّد الكعبة مع ابنه إسماعيل عليه السلام، ليكون علامة على بدء الطواف ومكاناً لتجديد العهد والتوحيد.

دور الحجر الأسود في بناء الكعبة

عندما أمر الله تعالى نبيه إبراهيم عليه السلام برفع قواعد البيت الحرام، بدأ هو وابنه إسماعيل ببناء الكعبة، وكانت أحجارها تُؤخذ من الجبال المحيطة بمكة. ولما بلغ البناء موضع الركن، قال إبراهيم لإسماعيل: “ائتني بحجر أضعه هنا يكون للناس علماً”. فانطلق إسماعيل ليبحث عن حجر مناسب، فأتى جبريل عليه السلام بالحجر الأسود من الجنة. فوضعه إبراهيم في موضعه المعروف اليوم، فكان أول حجر يوضع بيد نبي في أعظم بيت على وجه الأرض.

موقع الحجر الأسود ومكوناته الفيزيائية

يقع الحجر الأسود في الركن الشرقي الجنوبي للكعبة، ويُحيط به طوق من الفضة الخالصة صُنع في عهد الدولة العثمانية لحفظه من التفتت، إذ إن ما تبقى من الحجر الأسود اليوم هو أجزاء صغيرة جداً من الحجر الأصلي، لا يتجاوز عددها ثمان قطع صغيرة، أكبرها بقدر حبة التمر، وأصغرها بحجم حبة العدس.

أما من الناحية الجيولوجية، فقد أثيرت العديد من الدراسات الفرضية حول طبيعة الحجر، لكن أغلبها اعتمد على الملاحظة لا على الفحص المباشر، بسبب المنع الشرعي من إزالة الحجر لأغراض تحليلية. ومع ذلك، يُرجح بعض الباحثين أنه ذو أصل نيزكي، أي من نوع الأحجار النيزكية (Meteorites)، وهذا يتوافق مع كونه جاء من خارج كوكب الأرض، مما يتفق مع الحديث الشريف بأنه نزل من الجنة.

حادثة سرقة الحجر الأسود

من أبرز الأحداث التاريخية التي تعرض لها الحجر الأسود حادثة اقتلاعه وسرقته من قبل القرامطة في القرن الرابع الهجري، وتحديداً في سنة 317هـ. حيث اقتحموا المسجد الحرام وقتلوا آلاف الحجاج، ثم اقتلعوا الحجر الأسود من مكانه وأخذوه معهم إلى الإحساء وظل في حوزتهم لأكثر من عشرين عاماً.

خلال هذه الفترة، انكسر الحجر وتفتت إلى عدة قطع صغيرة. وبعد جهود سياسية ودبلوماسية، أُعيد الحجر الأسود إلى مكانه في الكعبة المشرفة سنة 339هـ. ومنذ ذلك الحين، وُضع في إطار من الفضة ليحفظ ما تبقى منه.

الحكمة من تقبيل الحجر الأسود

ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه كان يُقبل الحجر الأسود، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يُقبله: “إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يُقبلك ما قبلتك”. ويُشير هذا إلى أن تقبيل الحجر الأسود ليس من باب التبرك المادي بالحجر ذاته، وإنما من باب الامتثال والاتباع لسنة النبي، وتجديد العهد مع الله، وتأكيد على التوحيد والعبودية.

وبذلك، فإن التقبيل ليس تعظيماً للحجر في ذاته، بل تعظيمٌ لله سبحانه وتعالى الذي أمر بذلك على لسان نبيه الكريم. إنه فعل رمزي عميق الدلالة، يُمثل انطلاقة الرحلة الإيمانية في الطواف حول بيت الله، الذي يُجسد مركز التوحيد في الأرض.

القيمة الرمزية والروحية للحجر الأسود

يمثل الحجر الأسود محورًا مهمًا في الشعائر الإسلامية، ورمزًا من رموز التوحيد والإخلاص، وله دلالات متعددة في العقيدة:

1. تجديد العهد: فالمسلم حين يبدأ الطواف من عنده يُجدد عهده مع ربه على التوحيد والإخلاص.

2. الاتباع: هو مظهر من مظاهر الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم، دون خوض في الأسباب المادية.

3. رمزية التوبة: الحجر الأسود الذي كان أبيض ثم اسودّ، يرمز إلى أثر الذنوب على القلوب، في تذكير دائم للمسلمين بالتوبة والرجوع إلى الله.

4. تاريخ موثّق: كل مسلم في الأرض يشهد أن هذا الحجر هو ذاته الذي مسّه الأنبياء، ووقف عنده الصالحون، وقُبّل من أطهر الخلق على مر العصور.

الجوانب الفنية والتقنية المرتبطة بالحجر الأسود

شهد الحجر الأسود عبر العصور اهتماماً بالغاً من قبل الخلفاء والملوك والسلاطين، وقد تم تجديد الإطار الفضي المحيط به عدة مرات، حسب ما تقتضيه الحاجة. كان أول من وضع الإطار الفضي الخليفة العباسي المقتدر بالله، ثم أعيد ترميمه في عصور مختلفة، منها العصر العثماني والحديث.

أما الإطار الفضي الموجود اليوم فقد جُدد أكثر من مرة، كان آخرها في عهد الملك فهد بن عبد العزيز، ثم أُعيد ترميمه وصيانته بتقنيات حديثة في عهد الملك سلمان بن عبد العزيز باستخدام تقنيات حديثة في الحماية والترميم، دون المساس بالحجر نفسه.

مقارنة بين الحجر الأسود والأحجار المقدسة في الثقافات الأخرى

رغم أن العديد من الثقافات والديانات قدّست أحجاراً معينة، فإن الفرق الجوهري بين الحجر الأسود وغيره من الأحجار المقدسة في الحضارات الأخرى يكمن في:

هذه المقارنة تُظهر الفرق بين التكريم الرمزي في الإسلام، والتقديس الطقوسي الوثني في الثقافات الأخرى.

خاتمة تحليلية في أصل الحجر الأسود

الحجر الأسود يُمثل أحد أعظم رموز التوحيد في الإسلام، فهو ليس مجرد حجرٍ تُقبله الشفاه، بل هو موضعٌ تذرف عنده الدموع، وتُرفع فيه القلوب إلى خالقها، وتبدأ منه الرحلة الإيمانية للطواف. أصله من الجنة كما جاء في الحديث الصحيح، وشهد عبر التاريخ محطات من التقدير، والسرقة، والتكريم، والصيانة، ولا يزال إلى يومنا هذا محاطاً بالإجلال من ملايين المسلمين حول العالم.

يبقى الحجر الأسود جزءاً حيًّا من قصة الإسلام الكبرى، وواحداً من الرموز التي تحكي للإنسانية عن عبادة لا ترتبط بالمادة، بل تتصل بالخالق جلّ في علاه، عبادة تقوم على الإيمان والتسليم، وعلى الطاعة والاتباع، لا على التقديس والوثنية.

المراجع:

1. ابن كثير، البداية والنهاية، دار الفكر.

2. الترمذي، السنن، حديث رقم 877.