أسياس أفورقي: الزعيم الإريتري بين الثورة والدولة

يُعد أسياس أفورقي، الرئيس الإريتري الحالي ومؤسس دولة إريتريا الحديثة، من أكثر الشخصيات السياسية إثارة للجدل في القارة الإفريقية. لعب دوراً محورياً في مسيرة تحرير إريتريا من الاحتلال الإثيوبي، ثم تحوّل إلى حاكم استبدادي يحكم البلاد بقبضة حديدية منذ إعلان استقلالها عام 1993 وحتى اليوم. المقال التالي يتناول السيرة الذاتية والسياسية لأسياس أفورقي، ويُحلل مواقفه الأيديولوجية، وسياسته الداخلية والخارجية، وتأثيره على مسار الدولة الإريترية.

النشأة والبدايات الثورية

وُلد أسياس أفورقي في 2 فبراير 1946 في مدينة أسمرة، التي كانت آنذاك تحت الحكم البريطاني بعد أن وضعت إيطاليا مستعمراتها في القرن الإفريقي تحت الوصاية الدولية عقب الحرب العالمية الثانية. ينحدر من قومية التغرينيا المسيحية، وهي واحدة من أكبر المكونات الإثنية في إريتريا.

التحق أسياس بجامعة أديس أبابا في إثيوبيا لدراسة الهندسة، لكنه لم يُكمل دراسته بسبب انخراطه في النشاط السياسي والثوري. في عام 1966، غادر الجامعة وانضم إلى “جبهة تحرير إريتريا”، التي كانت تُقاتل من أجل استقلال إريتريا عن إثيوبيا، التي ضمتها رسمياً عام 1962.

في أواخر الستينيات، تلقى أفورقي تدريباً عسكرياً في الصين الشعبية، حيث تأثر بالأفكار الماوية من حيث التنظيم الحزبي، والانضباط، والثورة الشعبية المسلحة. وعاد إلى الميدان ليُصبح أحد القادة الميدانيين المؤثرين في الكفاح المسلح.

تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا

نتيجة للخلافات الأيديولوجية والتنظيمية داخل “جبهة تحرير إريتريا”، انشق أفورقي مع مجموعة من رفاقه عام 1970 لتأسيس تنظيم جديد عرف باسم “الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا”. هذا التنظيم جمع بين الانضباط العسكري والرؤية السياسية، وكان يتبنى موقفاً أكثر راديكالية وتنظيماً من سابقه.

لعب أسياس أفورقي دوراً مركزياً في بناء هياكل التنظيم، وتولى مناصب قيادية حتى أصبح الأمين العام للجبهة في أواخر السبعينيات. وخلال الثمانينيات، تمكنت الجبهة الشعبية من إحراز تقدم كبير على الأرض، وأصبحت القوة المهيمنة في الكفاح المسلح ضد النظام الإثيوبي بقيادة منغستو هايلي مريام.

استقلال إريتريا وصعود أفورقي إلى الحكم

مع سقوط نظام منغستو في أديس أبابا عام 1991، دخلت قوات الجبهة الشعبية بقيادة أفورقي العاصمة الإريترية أسمرة، لتُعلن نهاية حرب استمرت أكثر من 30 عاماً. وفي عام 1993، جرى استفتاء شعبي تحت إشراف الأمم المتحدة صوّت فيه الإريتريون بأغلبية ساحقة لصالح الاستقلال عن إثيوبيا.

أُعلنت إريتريا دولة مستقلة في 24 مايو 1993، وتولى أسياس أفورقي منصب رئيس الدولة ورئيس الحكومة والقائد الأعلى للقوات المسلحة، وهي مناصب لا يزال يحتفظ بها حتى اليوم. ومنذ ذلك الوقت، لم تُجرَ أي انتخابات رئاسية أو برلمانية في البلاد، ولم يُعتمد دستور نافذ رغم إقراره شكلياً عام 1997.

النظام السياسي في عهد أفورقي

منذ توليه الحكم، أسس أسياس أفورقي نظاماً سياسياً يقوم على سلطة مركزية مطلقة، حيث لا يُسمح بوجود أحزاب سياسية أو صحافة مستقلة أو منظمات مجتمع مدني فاعلة. الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا تحولت إلى حزب حاكم وحيد، بينما حُظرت كافة الأنشطة السياسية خارج إطاره.

وقد أُجهضت مبادرات إصلاحية داخل الحزب والحكومة في بدايات الألفية الجديدة، خاصة بعد أن طالب بعض المسؤولين المعروفين باسم “مجموعة الـ15” بإصلاحات ديمقراطية. واجه هؤلاء الاعتقال دون محاكمة، وما يزالون قيد الاحتجاز في ظروف غير معروفة.

تمارس الحكومة الإريترية، بقيادة أفورقي، رقابة صارمة على الإعلام، كما تُصنف إريتريا باستمرار ضمن قائمة الدول الأسوأ عالمياً في حرية الصحافة وحقوق الإنسان، وفق تقارير منظمات مثل “مراسلون بلا حدود” و”هيومن رايتس ووتش”.

الخدمة الوطنية والتجنيد الإجباري

أحد أبرز ملامح السياسة الداخلية لأسياس أفورقي هو نظام الخدمة الوطنية الإلزامية، الذي تم إقراره عام 1995. وعلى الرغم من أنه كان من المفترض أن يمتد لفترة محددة (18 شهراً)، فقد أصبح أداة لفرض التجنيد غير المحدود في الزمن. يُجبر المواطنون، رجالا ونساءً، على العمل في القوات المسلحة أو في مشاريع حكومية لفترات قد تمتد لسنوات طويلة، دون تحديد نهاية للخدمة.

هذا النظام يُعتبر من الأسباب الرئيسية لفرار آلاف الشباب الإريتريين سنوياً إلى خارج البلاد، ما جعل إريتريا أحد أكبر مصادر الهجرة غير الشرعية في إفريقيا. وواجهت الحكومة انتقادات دولية متكررة لما وصف بأنه “نظام عبودية حديثة”.

الحرب مع إثيوبيا

رغم العلاقات السابقة بين النظامين في أسمرة وأديس أبابا، اندلعت حرب حدودية دموية بين إريتريا وإثيوبيا بين عامي 1998 و2000 بسبب نزاع على منطقة بادمي الحدودية. أسفرت الحرب عن مقتل عشرات الآلاف من الجانبين، وتوقفت رسمياً بتوقيع اتفاق الجزائر في ديسمبر 2000، الذي نص على ترسيم الحدود تحت إشراف لجنة دولية.

رفضت إثيوبيا في البداية الانصياع لقرار اللجنة الذي منح منطقة بادمي لإريتريا، ما أدى إلى حالة من العداء السياسي والعسكري استمرت نحو عقدين. خلال هذه الفترة، تبنت الحكومة الإريترية موقفاً أمنياً مشدداً، مبررة القمع الداخلي بالتهديد الخارجي المستمر.

المصالحة مع إثيوبيا

في يوليو 2018، شهدت المنطقة تحولاً جذرياً مع توقيع اتفاق سلام تاريخي بين أسياس أفورقي ورئيس الوزراء الإثيوبي الجديد أبي أحمد في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا. الاتفاق وضع حداً لحالة “اللّا حرب واللّا سلم”، وجرى خلاله إعلان فتح السفارات وتطبيع العلاقات التجارية.

أثار هذا التقارب آمالاً داخل إريتريا بتحسن الوضع الداخلي، لكن سرعان ما اتضح أن النظام لم يُقدم على أي إصلاحات حقيقية بعد الاتفاق. استمرت سياسة القمع، واستمر العمل بالخدمة الوطنية المفتوحة، وظلت البلاد مغلقة أمام الإعلام والمراقبين الدوليين.

الدور الإقليمي والتدخل العسكري

في السنوات الأخيرة، توسع الدور الإريتري في الشأن الإقليمي، خاصة في القرن الإفريقي واليمن. وُجهت اتهامات لأفورقي بدعم جماعات مسلحة في إثيوبيا والسودان والصومال، كما لعبت القوات الإريترية دوراً رئيسياً في الحرب التي اندلعت في منطقة تيغراي الإثيوبية أواخر عام 2020.

دخلت القوات الإريترية إلى إثيوبيا لمساندة الجيش الإثيوبي ضد جبهة تحرير شعب تيغراي، ووجهت لها اتهامات بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بما في ذلك القتل الجماعي، والاغتصاب، والنهب. ورغم إنكار الحكومة الإريترية في البداية، أقرّت الأمم المتحدة وعدة منظمات بوجود أدلة موثقة على هذه الجرائم.

الاقتصاد والبنية التحتية

يُعاني الاقتصاد الإريتري من ضعف شديد في النمو، ويرجع ذلك إلى العقوبات الدولية، وسوء الإدارة، والاعتماد المفرط على الاقتصاد العسكري المغلق. تمتلك إريتريا موارد طبيعية من الذهب والمعادن، إلا أن هذه الموارد لا تُترجم إلى تنمية مستدامة، نظراً لهيمنة الجيش على قطاعات واسعة من الاقتصاد.

الاستثمار الأجنبي محدود بسبب القيود الصارمة، والفساد، وغياب الشفافية. يعتمد كثير من السكان على التحويلات المالية من أفراد العائلة في الخارج، وهي تمثل أحد مصادر النقد الأجنبي الأساسية للدولة.

البنية التحتية في إريتريا ضعيفة؛ فالنظام الصحي يعاني من نقص المعدات والكوادر، كما أن شبكات الكهرباء والمياه والطرق تعاني من تهالك واضح، خصوصاً في المناطق الريفية.

الإعلام والمجتمع المدني

تُعتبر إريتريا من أكثر الدول قمعاً لحرية التعبير. لا توجد صحف مستقلة أو قنوات إعلامية خاصة، وجميع وسائل الإعلام تخضع لرقابة صارمة من الدولة. منذ عام 2001، أُغلقت كافة الصحف الخاصة، وسُجن عدد كبير من الصحفيين دون محاكمة، وبعضهم مفقود حتى اليوم.

أما المجتمع المدني، فتم تفريغه من محتواه؛ لا يُسمح بتأسيس منظمات غير حكومية أو جمعيات مستقلة، ويُنظر لأي نشاط خارج إطار الحزب الحاكم كتهديد للأمن القومي. هذا أدى إلى عزلة عميقة بين النظام والمجتمع، وعزز ثقافة الخوف والرقابة الذاتية.

التركيبة الاجتماعية والسياسية

تتميز إريتريا بتنوع إثني وديني واسع، حيث تضم تسع قوميات رئيسية، وأديان تشمل الإسلام والمسيحية الأرثوذكسية والكاثوليكية والبروتستانتية. رغم هذا التنوع، لم يُفسح النظام المجال لتمثيل عادل لهذه المكونات في مؤسسات الدولة، مما زاد من التهميش وعدم الثقة.

اللغة الرسمية هي التغرينية، إلى جانب العربية والإنجليزية كلغات عمل، لكن التعدد الثقافي لا يُترجم إلى سياسات إدماج حقيقية. وقد أدى غياب آليات المشاركة السياسية والعدالة الاجتماعية إلى نزاعات وتوترات كامنة، قد تنفجر في المستقبل إذا استمر الإقصاء والاستبداد.

جدول: أبرز المحطات في مسيرة أسياس أفورقي

الخلاصة

أسياس أفورقي يمثل نموذجاً نادراً في السياسة الإفريقية: قائد ثوري تحوّل إلى رئيس استبدادي حافظ على سلطته دون انتخابات أو تداول سلمي منذ أكثر من ثلاثة عقود. قدم نفسه كرمز للتحرر الوطني، لكنه أخفق في بناء دولة ديمقراطية أو اقتصادية مزدهرة. تحولت إريتريا في عهده إلى واحدة من أكثر الدول عزلة وقمعاً في العالم، تُعاني من نزيف بشري واقتصادي ومجتمعي عميق.

المصادر:

1. Human Rights Watch. World Report 2023: Eritrea.

2. International Crisis Group. Eritrea: The Siege State, Africa Report N°163 – September 2010.