أسلوبية قصيدة المساء لخليل مطران

دراسة أسلوبية لقصيدة “المساء” لخليل مطران

تُعد قصيدة “المساء” للشاعر اللبناني الكبير خليل مطران من أبرز الأعمال الأدبية التي تركت بصمة واضحة في تاريخ الشعر العربي الحديث. يتسم أسلوب مطران في هذه القصيدة بالعمق الشعوري والتركيب اللغوي الذي يعكس جمالية الشعر الرومانسي الذي اتسمت به العديد من أعماله. ومن خلال هذه القصيدة، يبتكر مطران مشهداً شعرياً يعبر عن الحزن، والشعور بالوحدة، ويمزج بين الطبيعة والإنسان في علاقة حوارية متواصلة. تتناول هذه الدراسة جوانب الأسلوبية في قصيدة “المساء” من خلال التركيز على موضوعات القصيدة، لغة الشاعر، أساليب التشبيه والاستعارة، بالإضافة إلى استخدامه لوسائل أخرى كالتكرار والتنقل الزمني.

1. الموضوع والمضمون:

قصيدة “المساء” هي قصيدة تعبيرية، تبرز بوضوح الحالة النفسية التي يمر بها الشاعر. المضمون الأساسي للقصيدة يدور حول تأملات الشاعر في المساء، الذي يصبح رمزاً للغربة والوحدة والوحشة. يعود المساء في القصيدة إلى حالة من الارتباك الداخلي، حيث يحاكي الشاعر مشاعر الحزن واللامبالاة والفراغ الروحي الذي يملأ الوجود البشري في لحظات معينة. يُظهر المساء في القصيدة كمرحلة زمنية تكون فيها الذات الشاعرة في مواجهة مع نفسها، فالمساء لا يُشير فقط إلى المساء الزمني، بل إلى حالة نفسية تختلط فيها التأملات العميقة والمشاعر المكبوتة.

المساء في القصيدة هو مسرح يعكس فيه الشاعر صراعاً داخلياً مع ذاته، أو مع واقع مفقود. يرتبط المساء هنا بالزمن، ولكن ليس بالزمن المادي الحسي بل بالزمن الروحي الذي يحمل في طياته معاني العزلة والفراغ. القصيدة لا تحكي فقط عن مساء طبيعي، بل هي مساء روحي يتصاعد فيه الصوت الشاعري ويعلو ليعبّر عن تراجيديا الذات الإنسانية المرهقة.

2. البنية اللغوية والبلاغية:

يتسم الأسلوب البلاغي في القصيدة بالاستعارات والمجازات التي يعكس بها الشاعر عمق المعاناة التي يمر بها. يتم استخدام التراكيب اللغوية بعناية فائقة لتعزيز المعاني التي يسعى الشاعر لإيصالها. يُظهر مطران في قصيدته براعة في استخدام الوصف الدقيق للمكان والزمان، وهذا ما يعكس حسا شاعرياً فائقاً لديه.

من أبرز الأساليب البلاغية التي اعتمد عليها الشاعر في قصيدته: التشبيه والاستعارة. على سبيل المثال، حين يتحدث الشاعر عن المساء أو الغروب، يربط ذلك بحالة انكسار داخلية، فيجعل من المساء مظهراً من مظاهر السكون الداخلي والتوقف. هذه التشبيهات تجسد المعاناة الوجودية لدى الشاعر. كما يكثر الشاعر من استخدام الأسلوب التقريري لتأكيد مشاعره وتجسيد تفاعل الذات الشاعرة مع واقعها المحيط.

القصيدة مليئة بالصور الشعرية المجازية التي تسهم في تمثيل الهموم الداخلية للشاعر، وتلعب الصور الشعرية دوراً في ربط الشاعر بالعالم الخارجي. هذه الصور لا تأتي مفردة، بل تتداخل مع مشاعر الحزن والوحدة، مما يخلق تمازجاً بين الواقع والخيال. في هذه القصيدة، يتحول المساء إلى حالة وجدانية شاملة، تصبح فيها الذات الشاعرة طرفاً من مشهد واسع يضم الطبيعة والحياة والموت في مزيج غريب.

3. الإيقاع والتكرار:

الإيقاع في قصيدة “المساء” ليس إيقاعاً موسيقياً بحتاً، بل هو إيقاع نفسي يعبّر عن حال الشاعر. الشاعر لم يعتمد فقط على الوزن الشعري الثابت، بل عمل على خلق إيقاع داخلي من خلال التكرار والتركيز على الكلمات التي تحمل معنى حزيناً أو معبراً عن الوحدة. تكرار بعض العبارات والكلمات في القصيدة يعكس الحزن العميق الذي يعانيه الشاعر، وكأن الكلمات نفسها تؤكد على مرارة اللحظة، وتزيد من شدة تأثيرها على القارئ. التكرار في القصيدة لا يُستخدم فقط للتركيز على فكرة معينة بل يُظهر أيضاً الإصرار على التعبير عن تجربة حياتية حاسمة ومؤلمة.

4. التنقل الزمني ومغزى المساء:

يعتبر التنقل الزمني عنصراً مهماً في تحليل هذه القصيدة. يبدأ الشاعر في وصف اللحظات التي تسبق المساء، ثم ينتقل إلى الحديث عن المساء نفسه، ليُكمل الرحلة مع الذات في مساء مملوء بالأسى. هذا التنقل الزمني يعكس تنقّل الذات الشاعرة بين مراحل متعددة من الشعور بالعزلة والانعزال.

يمثل المساء في هذه القصيدة نقطة تحول زمنية، لكن هذا التحول لا يقتصر فقط على لحظة مرور الوقت، بل هو تحول نفسي يعكس تقلصات الروح الشاعرة التي تعيش أزمة وجودية. الانتقال من النهار إلى الليل، من النور إلى الظلام، ليس مجرد تحوّل في الزمن، بل هو تمثيل رمزي لتحولات داخلية في النفس البشرية التي يعبر عنها الشاعر.

5. الأسلوب الشخصي والذاتي:

القصيدة تتسم بطابع شخصي واضح، حيث يمكن ملاحظة أن الشاعر لا يتحدث فقط عن المساء كمفهوم عام، بل يشاركنا رؤيته الذاتية العميقة حول هذا التوقيت. يصبح المساء في القصيدة ليس فقط جزءاً من اليوم، بل جزءاً من الذات الشاعرة التي تفيض بالتأملات والمشاعر الخاصة. الذات الشاعرة في القصيدة ليست مجرد متفرجة على العالم، بل هي جزء من هذا العالم، تعبّر عن وحدة وجودية ولا شعور عميق بالانفصال عن الواقع.

في قصيدة “المساء”، يكشف مطران عن بعض من آلامه الشخصية من خلال أسلوبه الحساس في التعبير عن اللحظة التي تتسم باليأس والضياع. هو لا يقدم حلولاً أو إجابات على الأسئلة الوجودية، بل يبقى الشاعر عالقاً في هذا المساء الذي يرمز إلى حالة مأساوية من الاستفهام والتساؤل الوجودي. الشاعر يختار أن يعبر عن نفسه من خلال صوت داخلي يتنقل بين الذكريات والأحاسيس التي لا يمكن الهروب منها، مما يعكس حالته النفسية المضطربة.

6. التفاعل بين الذات والفضاء:

من أبرز عناصر قصيدة “المساء” هو التفاعل المستمر بين الذات الشاعرة والمكان الذي يحيط بها. يعتمد الشاعر في تصوير فضائه الشعري على التلاعب بالمفردات، حيث يربط المساء بمشاعر السكون والعزلة التي تحيط بالذات. كما أن المساء في القصيدة لا يعبر فقط عن جزء من الزمن، بل يتحول إلى فضاء نفسي مملوء بالأسئلة والانفعالات.

الفضاء الخارجي في القصيدة، الذي يُمثل في المساء، يشير إلى عزلته ومفارقته للحياة اليومية. هو فضاء يبدو فيه الشاعر معزولاً تماماً عن العالم، كأنما يغمره الظلام في فترة الهدوء الليلية. ويظهر هذا التفاعل بين الذات والفضاء في عدة أماكن من القصيدة، حيث لا يمكن فصل حالة الشاعر عن المكان الذي يعيشه.

7. الرمزية في القصيدة:

لا تقتصر الرمزية في قصيدة “المساء” على الرموز المعروفة مثل الليل والمساء، بل تتجاوز ذلك لتصل إلى رمزية الوجود الإنساني في كل لحظة من اللحظات. يُعتبر المساء رمزاً للغروب، الذي يعكس النهاية أو التلاشي، وفي نفس الوقت، هو رمز لبداية أخرى. فهو يقف بين الأمل والخيبة، ويطرح أسئلة فلسفية عميقة حول حقيقة الحياة والموت.

يتم إضفاء طابع رمزي على المشهد الذي يراه الشاعر، حيث يخلق مطران مفارقة شعرية بين واقع مرير وآمال مُحتملة، ليضفي بذلك أبعاداً عاطفية على المشهد. الرمزية تصبح في هذه القصيدة سمة أساسية تساعد في خلق الدلالات المتعددة التي تعزز من الإحساس بالفقد والموت.

الخاتمة:

تُعد قصيدة “المساء” لخليل مطران من أبرز الأعمال الشعرية التي تبين قدرة الشاعر على التعبير عن عمق التجربة الإنسانية من خلال لغة بليغة وصور شعرية مبتكرة. من خلال أسلوبه المتميز، يعكس مطران في هذه القصيدة القيم الروحية والوجودية التي تواجه الإنسان في مسيرته الحياتية، مؤكداً أن الشعر لا يقتصر على الترف الفكري بل هو مرآة لآلام البشر وهمومهم.