أسطورة السعادة تحت المجهر

دراسة جديدة تدحض أسطورة كبيرة عن السعادة

لطالما كانت السعادة هدفًا مشتركًا للبشرية جمعاء، وأُحيط هذا المفهوم بتصورات وأساطير رسختها المجتمعات والثقافات عبر قرون. اعتاد الناس على ربط السعادة بعوامل معينة، كالثروة، النجاح المهني، أو حتى العلاقات المثالية. غير أن دراسة علمية حديثة قلبت إحدى أكبر هذه الأساطير رأسًا على عقب، وأظهرت أن ما نعتقده عمومًا مفتاحًا للسعادة قد لا يكون كذلك في الواقع. الدراسة الجديدة، المنشورة في مجلة Nature Human Behaviour، تقدم أدلة متعمقة تعيد تشكيل فهمنا لما يجعل الإنسان سعيدًا بالفعل، وتطرح رؤية علمية دقيقة تستند إلى بيانات طويلة الأمد وتحليلات تجريبية على آلاف الأشخاص من خلفيات متنوعة.

السعادة: المفهوم التقليدي وأسطورة “الحياة المثالية”

في الخطاب الشعبي والإعلامي، كثيرًا ما تُقدَّم السعادة باعتبارها النتيجة الحتمية لنمط حياة معين: وظيفة مرموقة، دخل مرتفع، زواج مستقر، منزل واسع، وصحة مثالية. تُصور هذه العوامل كمعادلة جاهزة: إذا حصلت على هذه العناصر، ستكون سعيدًا لا محالة. هذا النموذج البسيط، رغم جاذبيته وسهولة فهمه، ثبت مرارًا وتكرارًا أنه لا يعكس الحقيقة المعقدة لتجربة الإنسان الشعورية.

الأسطورة التي تفندها الدراسة الجديدة بشكل خاص هي تلك التي تقول إن السعادة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالوصول إلى أهداف الحياة الكبرى. بعبارة أخرى، الاعتقاد السائد بأن الشخص سيكون أكثر سعادة عند التخرج، الزواج، الترقية، شراء المنزل، أو حتى التقاعد. هذه القناعة، رغم عمق ترسّخها في وعي الأفراد، تتعرض الآن لنقد علمي جاد.

تصميم الدراسة: منهجية طويلة الأمد ومقاييس دقيقة

اعتمد الباحثون على تحليل بيانات أكثر من 70 ألف شخص من دول متعددة على مدار 10 سنوات، باستخدام مقاييس معيارية معتمدة دوليًا لقياس السعادة والرضا عن الحياة، مثل مقياس ديينر للسعادة ومقياس التوازن العاطفي. رُصدت تجارب المشاركين في محطات رئيسية من حياتهم، وتمت مقارنة مستويات السعادة قبل وبعد حدوث “إنجازات كبرى” مثل الزواج أو الحصول على وظيفة جديدة.

ما ميّز هذه الدراسة عن غيرها هو تركيزها على “الاستمرارية الزمنية للشعور بالسعادة” بعد تحقق الإنجاز. لم تقتصر على رصد اللحظة العابرة من النشوة التي يشعر بها الشخص عند تحقيق هدف، بل تتبعت كيف تتغير حالته الشعورية بعد أسابيع، شهور، وسنوات من الحدث. والنتيجة جاءت مفاجئة.

نتائج الدراسة: الإنجازات لا تضمن سعادة طويلة الأمد

أظهرت النتائج أن معظم الأحداث التي يُنظر إليها عادة على أنها “مفاتيح للسعادة” تؤدي إلى ارتفاع مؤقت فقط في الشعور بالسعادة، سرعان ما يتلاشى خلال أسابيع أو شهور. فمثلاً، الزواج أدى إلى ارتفاع بمعدل 0.5 نقطة في مقياس السعادة (الذي يمتد من 0 إلى 10) في الشهر الأول، لكن عاد معظم المشاركين إلى مستوياتهم السابقة خلال 12 شهرًا.

أما الترقية في العمل أو الانتقال إلى منزل أكبر، فأظهرت تأثيرًا أكثر هشاشة؛ إذ لم يتجاوز ارتفاع السعادة 0.2 نقطة في المتوسط، واختفى كليًا بعد بضعة أسابيع. اللافت أن بعض الإنجازات، كالحصول على ثروة مفاجئة أو الفوز بجائزة مالية كبرى، ارتبطت أحيانًا بتراجع في الشعور العام بالرضا بعد مرور فترة من الزمن، نتيجة التغيرات المفاجئة في نمط الحياة والتوقعات الجديدة.

التفسير النفسي: التكيّف العاطفي وتضخيم التوقعات

يعزو العلماء هذا التراجع إلى آليتين نفسيتين أساسيتين: التكيّف العاطفي وتضخيم التوقعات. التكيّف العاطفي يعني أن الإنسان، بطبيعته، يميل للعودة إلى مستوى ثابت نسبيًا من الشعور بالسعادة بعد المرور بتجارب إيجابية أو سلبية، وهي ظاهرة تُعرف بـ”نظرية خط الأساس للسعادة”.

أما تضخيم التوقعات، فيحدث عندما يربط الشخص سعادته المستقبلية بهدف معين، مما يولّد لديه توقعات عالية جدًا. وعند تحقيق الهدف، لا تتوافق التجربة الواقعية مع حجم التوقعات، فيحدث نوع من الخيبة غير المتوقعة، قد تؤدي إلى انخفاض في الرضا العام عن الحياة.

العوامل الحقيقية المؤثرة في السعادة بحسب الدراسة

بينما دحضت الدراسة الارتباط المطلق بين الإنجازات الكبرى والسعادة المستدامة، فقد حددت مجموعة من العوامل التي أظهرت تأثيرًا قويًا ومستمرًا في تعزيز الشعور بالسعادة على المدى الطويل:

1. الروابط الاجتماعية العميقة

وجود علاقات شخصية ذات جودة عالية – سواء أسرية أو صداقات وثيقة – ارتبط بشكل مباشر واستمراري بارتفاع مؤشرات السعادة، بغض النظر عن الحالة الاقتصادية أو الإنجازات الحياتية.

2. الاستقرار النفسي والعاطفي

المهارات النفسية مثل الوعي الذاتي، التحكم في التوتر، القدرة على تقبل الذات، كانت من بين أبرز المحددات طويلة الأمد للسعادة.

3. المعنى والغرض

الأشخاص الذين رأوا أن لحياتهم معنى أو هدفًا – سواء عبر العمل التطوعي، الإيمان الديني، أو المشاريع الشخصية – أظهروا مستويات أعلى من الرضا والاستقرار الشعوري.

4. المرونة النفسية

القدرة على التعامل مع التحديات والمحن، والمعروفة علميًا بـ”المرونة النفسية”، ظهرت كعامل حاسم في تحديد مدى قدرة الشخص على الشعور بالسعادة رغم الظروف الخارجية.

إعادة تعريف النجاح والسعادة

تدعو نتائج هذه الدراسة إلى إعادة نظر شاملة في مفاهيم النجاح والسعادة السائدة في المجتمعات المعاصرة. فبدلاً من التركيز المفرط على الإنجازات الخارجية، توجّه النتائج الأنظار نحو أهمية بناء الداخل الإنساني، وتطوير المهارات الذاتية، والعلاقات البشرية ذات المعنى.

تتطلب هذه التحولات أيضًا مراجعة للأساليب التي يُربى بها الأفراد منذ الطفولة، وللرسائل التي تروّج لها وسائل الإعلام. فحين يُعلَّم الطفل منذ نعومة أظافره أن التفوق الدراسي أو المادي هو الطريق الوحيد للسعادة، يُهمل الجانب الأهم من التكوين الإنساني: القدرة على التكيّف، التعاطف، وبناء علاقات حقيقية.

أثر النتائج على السياسات العامة والتعليم

توصي الدراسة بأن تُدمج مفاهيم جديدة عن السعادة في السياسات العامة، وخاصة في مجالات التعليم والصحة النفسية. على سبيل المثال، يمكن تعزيز تعليم الذكاء العاطفي في المدارس، ووضع برامج مجتمعية لتقوية الروابط الاجتماعية، وتنمية الشعور بالانتماء والمعنى في حياة المواطنين.

كما تقترح الدراسة ضرورة تعديل مؤشرات قياس رفاه الدول، بحيث لا تقتصر على الناتج المحلي الإجمالي أو مستويات الاستهلاك، بل تشمل مقاييس الصحة النفسية والروابط الاجتماعية والرضا الشخصي.

جدول: مقارنة بين العوامل قصيرة وطويلة الأمد للسعادة

الخلاصة

تبرز هذه الدراسة كعلامة فارقة في فهم علمي عميق لمفهوم السعادة، وتفكك واحدة من أكثر الأساطير رسوخًا في الثقافة البشرية المعاصرة: أن السعادة مرهونة بتحقيق أهداف خارجية كبرى. ورغم أن تلك الإنجازات قد تجلب لحظات من الفرح أو الراحة، إلا أن السعادة المستدامة تنبع من الداخل، من جودة التجربة اليومية، من العلاقات الحقيقية، ومن الإحساس بالمعنى والارتباط بالذات والآخرين.

تشكل هذه النتائج دعوة للتأمل والمراجعة، ليس فقط على مستوى الفرد، بل على صعيد بناء المجتمعات وصياغة السياسات التي تعزز رفاه الإنسان الحقيقي، لا وهم الإنجاز فقط.

المراجع:

1. Diener, E., Lucas, R. E., & Scollon, C. N. (2006). Beyond the hedonic treadmill: Revising the adaptation theory of well-being. American Psychologist.

2. Nature Human Behaviour, Vol. 9, Issue 1, 2025.