أسباب مرض ثنائي القطب
يُعد اضطراب ثنائي القطب من الاضطرابات النفسية المعقدة التي تؤثر على المزاج والطاقة والقدرة على العمل والتفاعل الاجتماعي. يتسم هذا الاضطراب بتناوب نوبات من الهوس (أو الهوس الخفيف) ونوبات من الاكتئاب، مما يخلق نمطًا مزاجيًا متقلبًا قد يعرقل الحياة اليومية للمصابين به. لفهم أسبابه بشكل معمق، لا بد من تحليل عدة عوامل مترابطة تشمل العوامل الجينية، العصبية، البيئية، والنفسية.
أولاً: العوامل الجينية والوراثية
تشير الأدلة العلمية إلى أن للوراثة دوراً كبيراً في تطور مرض ثنائي القطب. حيث أظهرت الدراسات التي أُجريت على التوائم والعائلات أن احتمالية الإصابة تزداد بشكل ملحوظ عند وجود تاريخ عائلي للإصابة بهذا الاضطراب.
الدراسات الوراثية
الدراسات الجينية الحديثة كشفت عن مجموعة من الجينات المرتبطة بتنظيم المزاج والناقلات العصبية والتي قد تكون أكثر شيوعًا لدى المصابين بثنائي القطب. على سبيل المثال، وُجد أن جينات مثل CACNA1C وANK3 تلعب دورًا في الوظائف العصبية المتعلقة بالتقلبات المزاجية، وتُعد هذه الجينات هدفًا للعديد من الأبحاث الدوائية والعلاجية.
نسب الانتشار في العائلات
-
إذا كان أحد الوالدين مصابًا بالاضطراب، فإن احتمال إصابة الطفل به يتراوح بين 10-25%.
-
إذا كان كلا الوالدين مصابين، فقد تصل النسبة إلى 50-75%.
-
التوائم المتطابقة المصابة أحدهما، تزداد فيها نسبة إصابة الآخر حتى 70%، ما يؤكد العامل الوراثي بوضوح.
ثانيًا: العوامل العصبية والكيميائية
اختلال في النواقل العصبية
تشير البحوث العصبية إلى أن اضطراب ثنائي القطب يرتبط باختلال التوازن في المواد الكيميائية العصبية داخل الدماغ، مثل:
-
الدوبامين: يرتبط بمرحلة الهوس، حيث يكون في مستويات مرتفعة جدًا.
-
السيروتونين: يرتبط غالبًا بالاكتئاب، وعند انخفاضه تحدث نوبات اكتئابية شديدة.
-
النورأدرينالين: يساهم في كلا النوبات، ويؤثر في مستويات الطاقة والانتباه.
التغيرات في البنية الدماغية
أظهرت دراسات التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) اختلافات في حجم ونشاط بعض مناطق الدماغ لدى الأشخاص المصابين بثنائي القطب، مثل:
-
اللوزة الدماغية (Amygdala): تلعب دورًا في تنظيم الانفعالات، وغالبًا ما تكون أكثر نشاطًا خلال نوبات الهوس.
-
الفص الجبهي (Frontal lobe): المسؤول عن الحكم والانضباط الذاتي، وغالبًا ما يكون نشاطه منخفضًا أثناء النوبات.
ثالثًا: العوامل البيئية والنفسية
رغم أن العوامل الجينية والعصبية تضع الأساس للإصابة، فإن العوامل البيئية تلعب دورًا محفزًا ومسرّعًا لنشوء وتكرار النوبات.
الضغوط النفسية والاجتماعية
-
الضغوط الأسرية: كالنزاعات بين الوالدين، الإهمال العاطفي، أو التفكك الأسري.
-
التجارب الصادمة: مثل الاعتداء الجسدي أو الجنسي، الفقدان المفاجئ لأحد الأحباء، أو التعرض لحوادث مروعة في الطفولة.
-
البيئات غير المستقرة: كالتنقل الدائم بين البيئات أو التعرض لبيئات دراسية أو مهنية عالية التوتر.
التغيرات الموسمية
تُعد نوبات الهوس أكثر شيوعًا في فصل الربيع، بينما تزداد نوبات الاكتئاب في الخريف والشتاء، مما يشير إلى تأثير الإضاءة الطبيعية والإيقاع اليوماوي (Circadian Rhythm) في تنظيم المزاج.
رابعًا: العوامل البيولوجية الهرمونية
يرتبط اضطراب ثنائي القطب أحيانًا بتغيرات في مستويات بعض الهرمونات، خصوصًا تلك المتعلقة بالإجهاد مثل:
-
الكورتيزول: ارتفاعه المزمن قد يؤثر في استقرار المزاج ويؤدي إلى تكرار النوبات.
-
الهرمونات الجنسية: خاصة خلال فترات مثل البلوغ، الحمل، أو سن اليأس، حيث تكون النساء عرضة لنوبات اكتئاب شديدة أو حتى اضطراب مزاجي مختلط.
خامسًا: العوامل الدوائية والمواد المخدرة
استخدام بعض الأدوية أو المواد النفسية يمكن أن يحفز أو يفاقم الاضطراب لدى الأشخاص ذوي الاستعداد الوراثي أو النفسي له.
العقاقير المنشطة أو المثبطة
-
مضادات الاكتئاب: قد تحفز نوبة هوس لدى بعض المرضى إن لم تُرفق بمثبطات المزاج.
-
الستيرويدات: مثل الكورتيزون، قد تؤدي إلى تغيرات حادة في المزاج.
الكحول والمخدرات
-
الكحول: يرتبط بزيادة نوبات الاكتئاب وتفاقم السلوك الانتحاري.
-
المخدرات مثل الأمفيتامين أو الكوكايين: تُحدث اندفاعًا شديدًا وتفاقم الأعراض الهوسية.
سادسًا: اضطرابات النوم والإيقاع الحيوي
يلعب النوم دورًا جوهريًا في تنظيم المزاج، وتشير الدراسات إلى أن اختلال نمط النوم قد يكون مؤشرًا مبكرًا على قرب حدوث نوبة.
الحرمان من النوم
عدم الحصول على قدر كافٍ من النوم لعدة أيام متتالية قد يحفز نوبة هوس. بالمقابل، النوم المفرط قد يسبق أو يصاحب نوبات الاكتئاب.
اضطراب الإيقاع اليومي
اضطراب الساعة البيولوجية الداخلية (Circadian Rhythm Disruption) يُعد من الأسباب المحتملة لتغير المزاج، خصوصًا لدى من يعملون بنظام الورديات أو يسافرون عبر مناطق زمنية مختلفة باستمرار.
سابعًا: الاستعدادات النفسية والفسيولوجية الفردية
الشخصية
بعض السمات الشخصية مثل الاندفاعية، الحساسية المفرطة، والميل للتقلبات العاطفية، قد تكون عوامل مؤهلة للإصابة.
ضعف مهارات التكيف
الأشخاص الذين يفتقرون إلى استراتيجيات فعالة لإدارة الضغط، أو الذين يعانون من عزلة اجتماعية مزمنة، يكونون أكثر عرضة لتطور المرض أو تفاقمه.
جدول: مقارنة بين أبرز العوامل المسببة
| التصنيف | أمثلة أو تفاصيل | ملاحظات |
|---|---|---|
| جينية | تاريخ عائلي، توائم متطابقة، جينات CACNA1C وANK3 | احتمالية الإصابة ترتفع بشكل ملحوظ عند وجود سوابق عائلية |
| عصبية | اختلال الدوبامين والسيروتونين، تغير في اللوزة الدماغية والفص الجبهي | تظهر في التصوير الوظيفي وتُشكل محور البحوث العصبية |
| بيئية | صدمات الطفولة، فقدان الدعم الاجتماعي، تغيرات موسمية | تلعب دورًا كبيرًا كمحفز للنوبات |
| هرمونية | الكورتيزول، اضطرابات الهرمونات الجنسية | خصوصًا خلال الحمل والولادة أو البلوغ |
| دوائية | مضادات الاكتئاب، الستيرويدات، الكحول، المخدرات | استخدام هذه المواد يجب أن يتم بحذر وتحت إشراف طبي |
| نفسية وسلوكية | تقلبات الشخصية، ضعف التكيف، اضطرابات النوم | مؤشرات مبكرة ومستمرة لتكرار النوبات |
المراجع
-
Goodwin, F. K., & Jamison, K. R. (2007). Manic-Depressive Illness: Bipolar Disorders and Recurrent Depression. Oxford University Press.
-
National Institute of Mental Health (NIMH). Bipolar Disorder – https://www.nimh.nih.gov
هذا العرض الشامل يوضح أن أسباب مرض ثنائي القطب ليست أحادية أو بسيطة، بل تنجم عن تداخل معقد بين عوامل متعددة بيولوجية وبيئية ونفسية. فهم هذه العوامل يسهم في تحسين استراتيجيات الوقاية والعلاج، ويُعد خطوة جوهرية في التعامل مع هذا الاضطراب المزاجي المعقد.
