لماذا يكذب الزوج أحياناً؟
تعد مسألة الكذب في العلاقات الزوجية من القضايا الحساسة والمعقدة التي تتداخل فيها العوامل النفسية والاجتماعية والثقافية والشخصية، ولعل من أكثر الأسئلة التي تطرحها الزوجات في جلسات الاستشارات النفسية أو الحوارات الأسرية: “لماذا يكذب زوجي؟”. لا يمكن الإجابة عن هذا التساؤل بشكل سطحي أو حاسم، فالدوافع تختلف من شخص لآخر، ومن علاقة لأخرى، لكن من الممكن فهم السياقات والأنماط والدوافع النفسية والاجتماعية التي تجعل بعض الأزواج يلجؤون إلى الكذب، سواء كان ذلك كذباً أبيض بسيطاً، أو كذباً منظماً ومتكرراً يؤدي إلى خلل كبير في العلاقة الزوجية.
أولاً: الكذب كآلية دفاع نفسي
في علم النفس، يُعد الكذب أحياناً آلية دفاعية يلجأ إليها الإنسان لحماية ذاته من الإحساس بالخطر أو الألم أو الإحراج. الزوج، مثل أي إنسان، قد يجد نفسه مضطراً للكذب كي يتفادى رد فعل سلبي من شريكته، أو كي لا يشعر بالخجل من تصرف ارتكبه ويعلم أنه مرفوض. ففي بعض الأحيان، لا يكون الهدف من الكذب هو الإيذاء، بل التهرب من مواجهة محرجة أو معقدة، أو تجنب فتح نقاش قد يقود إلى صراع.
الرجل الذي نشأ في بيئة أسرية قمعية أو صارمة، أو تعرض خلال طفولته لنقد دائم، قد يطور سلوكيات دفاعية تجعله يفضل الكذب على قول الحقيقة، حتى وإن كانت الحقيقة غير مؤذية، لأن تجربته السابقة علمته أن الصراحة تقود إلى العقاب أو الرفض.
ثانياً: الخوف من فقدان السيطرة أو الاستقلال
في بعض الأنماط الزوجية، يشعر الرجل أن الصراحة الكاملة قد تؤدي إلى فقدانه لقدر من السيطرة أو الاستقلال الذي يعتبره ضرورياً للحفاظ على توازنه النفسي. فعندما يشعر الزوج أن الحديث الصريح حول موضوع ما (كالخروج مع الأصدقاء أو الإنفاق المالي) سيقيد حريته أو يجعله عرضة للرقابة أو الممانعة، فإنه يفضل الكذب كوسيلة للحفاظ على مساحته الشخصية.
وهنا تتداخل مسألة الكذب مع طبيعة العلاقة بين الزوجين، فكلما كانت العلاقة مبنية على التفاهم والاحترام والتوازن، كلما قلت الحاجة للكذب، وكلما كانت العلاقة قائمة على الشك والمراقبة والتحكم، زادت احتمالية لجوء أحد الطرفين إلى إخفاء الحقيقة.
ثالثاً: الرغبة في تجنب المواجهات الزوجية
غالباً ما يكون الكذب وسيلة سهلة وسريعة للهروب من نقاش متوتر أو جدال محتمل. الزوج قد يفضل أن يقول “لم أخرج” بدلاً من “خرجت مع أصدقائي”، لأنه يعلم مسبقاً أن الحقيقة قد تقود إلى جدال طويل أو لوم أو حتى خصام. هنا، يكون الكذب حلاً عملياً – من وجهة نظره – لتفادي التوتر.
وتزداد هذه الحالة في العلاقات التي يغيب فيها الحوار الهادئ والبنّاء، أو عندما تعاني الزوجة من حساسية مفرطة تجاه بعض الأمور، مما يجعل الزوج يرى أن قول الحقيقة مكلف عاطفياً.
رابعاً: الكذب الناتج عن الإدمان أو الخيانة
من أخطر أنواع الكذب الزوجي هو الكذب المرتبط بسلوكيات مرفوضة أو محرّمة، كالإدمان (سواء على المواد أو على العادات السيئة) أو الخيانة الزوجية. في هذه الحالات، يصبح الكذب جزءاً من نمط متكرر ومنظم يخدم غرضاً محدداً: إخفاء حقيقة جوهرية تمس جوهر العلاقة الزوجية.
الزوج المدمن، سواء كان إدمانه على الكحول أو المخدرات أو القمار أو حتى الإباحية، يلجأ للكذب كأداة لبناء واجهة زائفة يوهم بها شريكة حياته أنه طبيعي، وأن كل شيء على ما يرام، فيما الحقيقة أنه يعيش ازدواجاً سلوكياً ونفسياً. أما الخيانة الزوجية، فإنها غالباً ما تكون محاطة بشبكة معقدة من الأكاذيب، تبدأ بالكذب بشأن مكان التواجد، ولا تنتهي بتزييف المشاعر.
خامساً: الكذب الناجم عن غياب المهارات العاطفية
ليست كل حالات الكذب نتيجة سوء نية. هناك فئة من الأزواج يفتقرون للقدرة على التعبير عن مشاعرهم أو احتياجاتهم بطرق مباشرة وصادقة، فيلجؤون للكذب كبديل عن الصراحة. هؤلاء لا يكذبون لإخفاء جرائم أو أخطاء، بل لأنهم لا يعرفون كيف يواجهون الآخر بالحقيقة دون أن يجرحوه أو يصطدموا به.
الرجال الذين لم يتعلموا كيف يعبرون عن الضعف أو الحزن أو الضيق قد يخفون هذه المشاعر بكلمات غير صادقة. فبدلاً من أن يقول “أنا متضايق لأنني أشعر بالفشل في عملي”، قد يقول “كل شيء على ما يرام”، مما يعتبر شكلاً من أشكال الكذب العاطفي.
سادساً: تأثير الثقافة المجتمعية الذكورية
في العديد من المجتمعات، ما تزال الصورة النمطية للرجل “القوي الذي لا يخطئ ولا يضعف” سائدة، وهي صورة تدفع كثيراً من الرجال إلى الكذب للحفاظ على مظهرهم الاجتماعي أو الرجولي. هذا النوع من الكذب يرتبط بالضغوط الاجتماعية التي تجعل الرجل يخاف من الظهور بمظهر الضعف أو الفشل أمام زوجته أو عائلته.
قد يكذب الزوج بشأن دخله، أو حول طبيعة عمله، أو عن مشاريعه المستقبلية، ليس لأنه يريد خداع زوجته، بل لأنه يشعر أن الاعتراف بالحقيقة يعني الاعتراف بالنقص أو الهزيمة.
سابعاً: الكذب كعادة مكتسبة
بعض الرجال يكذبون لأنهم اعتادوا على ذلك منذ الصغر. ربما نشأوا في بيئة تشجع على الكذب أو تعتبره مهارة اجتماعية. وقد يكون الكذب عندهم غير مرتبط بحالات طارئة أو مواقف معقدة، بل أصبح جزءاً من نمط تفكيرهم وتواصلهم مع الآخرين.
هذا النوع من الكذب المزمن، إن لم يتم التعامل معه بوعي وإدراك، قد يتحول إلى سلوك مرضي يُعرف في علم النفس بـ”الميثومانيا”، وهي حالة يعتاد فيها الشخص على الكذب حتى دون سبب منطقي.
ثامناً: الفرق في تعريف “الحقيقة”
من المسائل التي تؤدي إلى سوء الفهم بين الزوجين، أن يكون لكل طرف تعريف مختلف لما هو “صادق” وما هو “كاذب”. فبعض الأزواج يعتقدون أن إخفاء بعض التفاصيل الصغيرة لا يعد كذباً، بينما ترى الزوجة أن الصدق الكامل يتطلب إخبار كل شيء.
هذا التفاوت في الفهم قد يؤدي إلى شعور الزوجة بالخيانة حتى وإن لم يكن الزوج يقصد الكذب، بل مارس ما يعتبره “تحفّظاً مقبولاً”. هنا، يكون من الضروري الاتفاق بين الطرفين على مستوى الصراحة المطلوب، والحدود التي لا يجب تجاوزها.
تاسعاً: الكذب كأداة للسيطرة أو التلاعب
في بعض الحالات، يكون الكذب سلوكاً نرجسياً مقصوداً يُستخدم للسيطرة على العلاقة أو التلاعب بالزوجة عاطفياً. الزوج في هذه الحالة قد يكون من أصحاب الشخصية النرجسية أو المضادة للمجتمع، ويكذب دون ندم أو تأنيب ضمير، بهدف الحصول على مكاسب شخصية أو عاطفية، أو لفرض هيمنته على العلاقة.
هذه الأنماط من السلوك تُعد خطرة جداً، وتؤدي غالباً إلى تآكل الثقة وانهيار العلاقة بمرور الوقت، خاصة إذا كان الكذب ممنهجاً ويُستخدم لتضليل الشريكة أو تحقيرها أو إنكار مسؤوليات الزوج.
عاشراً: دور الزوجة في تعزيز أو تقليل الكذب
رغم أن مسؤولية الكذب تقع على من يمارسه، إلا أن طبيعة العلاقة الزوجية نفسها قد تشجع على الصراحة أو تُقيّدها. الزوجة التي تستجيب بصراخ أو تأنيب لكل خطأ صغير قد تدفع زوجها للكذب خوفاً من رد فعلها. في المقابل، الزوجة التي تخلق جواً من الأمان العاطفي والحوار المفتوح، غالباً ما تجعل من الصدق خياراً ممكناً وسهلاً.
من هنا، يصبح واضحاً أن الصراحة ليست فقط قراراً فردياً، بل هي نتيجة ثقافة أسرية تُبنى بالتدريج، تبدأ من الاحترام وتنتهي بالثقة المتبادلة.
الحصيلة: الكذب مؤشر على وجود خلل
في نهاية التحليل، يمكن القول إن الكذب الزوجي ليس مجرد سلوك عرضي، بل هو غالباً مؤشر على وجود خلل في العلاقة، سواء على مستوى التواصل، أو الأمان العاطفي، أو الاحترام المتبادل، أو حتى الصحة النفسية لأحد الطرفين. لا يمكن معالجة مشكلة الكذب دون فحص جذورها، وفهم دوافعها، والعمل على إصلاح البيئة التي تشجع على هذا السلوك.
علاج الكذب لا يمر فقط من خلال المواجهة أو العقاب، بل عبر الحوار، وبناء بيئة زوجية صحية، وتعزيز ثقافة الصراحة والقبول، مع استعداد الطرفين للاعتراف بالأخطاء والعمل على تحسين العلاقة.
المصادر:
-
Freud, S. (1926). Inhibitions, Symptoms and Anxiety. International Psycho-Analytical Library.
-
Ekman, P. (2001). Telling Lies: Clues to Deceit in the Marketplace, Politics, and Marriage. Norton.
