أسباب كثرة التبول: نظرة طبية موسعة

تُعدّ كثرة التبول من الأعراض الشائعة التي قد يمرّ بها الإنسان في مراحل مختلفة من حياته، وهي ليست بحدّ ذاتها مرضًا، بل علامة سريرية قد ترتبط بعدد كبير من الحالات الصحية، سواء كانت بسيطة وعابرة أو أكثر خطورة وتستلزم تدخلًا طبيًا فوريًا. يتسم هذا العرض بزيادة عدد مرات التبول اليومية مقارنة بالمعدل الطبيعي، والذي يقدّر طبيًا بنحو 6 إلى 8 مرات في اليوم عند الشخص البالغ السليم الذي يتناول كمية معتدلة من السوائل.

تتفاوت الأسباب الكامنة وراء كثرة التبول من شخص لآخر بحسب العمر، الجنس، التاريخ المرضي، ونمط الحياة. في هذا المقال، سيتم التطرق إلى أبرز الأسباب العضوية والوظيفية والسلوكية المرتبطة بكثرة التبول، مع تقديم شرح علمي مفصل لكل حالة وفقًا لما ورد في المراجع الطبية الحديثة.

أولًا: الأسباب المرتبطة بالجهاز البولي

1. التهاب المسالك البولية (UTI)

يُعدّ التهاب المسالك البولية من أكثر الأسباب شيوعًا لكثرة التبول، ويحدث نتيجة دخول بكتيريا إلى الجهاز البولي، خصوصًا الإحليل والمثانة. يُصاحب هذه الحالة أعراض أخرى مثل حرقة البول، تعكر لونه، الرغبة الملحّة في التبول، وأحيانًا ارتفاع الحرارة. تزداد نسبة الإصابة به بين النساء بسبب قصر الإحليل مقارنة بالرجال.

2. التهاب المثانة الخلالي (Interstitial Cystitis)

وهو مرض مزمن مجهول السبب يتمثل في تهيج والتهاب جدار المثانة، ما يؤدي إلى شعور دائم بامتلاء المثانة والحاجة المتكررة للتبول حتى في غياب كميات كبيرة من البول. وقد يصاحب ذلك آلام في الحوض واضطراب في النوم.

3. فرط نشاط المثانة (Overactive Bladder)

تُعدّ هذه الحالة من اضطرابات المثانة الشائعة التي تصيب كِلا الجنسين، وتتميز بتقلصات غير إرادية في عضلات المثانة مما يسبب الرغبة المفاجئة والملحة للتبول حتى وإن كانت كمية البول قليلة. تتفاقم الأعراض أثناء الليل وتؤثر على جودة النوم.

4. حصى الكلى أو المثانة

وجود حصى في الجهاز البولي قد يهيج بطانة المثانة أو الحالب، مما يؤدي إلى كثرة التبول والشعور بعدم تفريغ المثانة بالكامل. يمكن أن تصاحب الحالة أعراض أخرى مثل ألم الجنب أو أسفل الظهر وظهور دم في البول.

ثانيًا: الأسباب المتعلقة بالغدد الصماء

1. السكري من النوع الأول والثاني

ارتفاع نسبة السكر في الدم يؤدي إلى سحب السوائل من الأنسجة لخفض تركيز الجلوكوز، مما يحفّز الكلى على إنتاج مزيد من البول. كثرة التبول هي من الأعراض المبكرة الشائعة لمرض السكري، إلى جانب العطش الشديد، الإرهاق، والجوع المستمر.

2. السكري الكاذب (Diabetes Insipidus)

وهو مرض نادر يحدث نتيجة نقص في إفراز الهرمون المضاد لإدرار البول (ADH) أو بسبب فشل الكلى في الاستجابة له. يؤدي ذلك إلى إنتاج كميات كبيرة من البول المخفف، وبالتالي التبول المتكرر مع الشعور بالعطش الشديد.

3. فرط نشاط الغدة الدرقية

في بعض الحالات، يسبب فرط إنتاج هرمونات الغدة الدرقية تحفيزًا لوظائف الأعضاء ومنها الكلى، ما قد يرفع معدل التبول، إضافة إلى أعراض أخرى مثل فقدان الوزن، تسارع ضربات القلب، والقلق.

ثالثًا: الأسباب المتعلقة بالحمل والهرمونات الأنثوية

1. الحمل

يُعدّ التبول المتكرر عرضًا طبيعيًا وشائعًا في الحمل، لا سيما في الثلث الأول والثالث. في البداية يكون السبب هو التغيرات الهرمونية وزيادة تدفق الدم إلى الكليتين، وفي مراحل لاحقة، يضغط الرحم المتوسع على المثانة، مما يقلل سعتها ويحفّز الشعور المتكرر بالحاجة إلى التبول.

2. انقطاع الطمث

الانخفاض الطبيعي في مستويات هرمون الإستروجين لدى النساء بعد انقطاع الطمث يؤدي إلى ضعف عضلات المثانة والإحليل، ما يؤدي بدوره إلى تقليل القدرة على حبس البول وظهور أعراض مثل كثرة التبول وسلس البول.

رابعًا: الأسباب العصبية والنفسية

1. اضطرابات الأعصاب التي تتحكم بالمثانة

يمكن أن تؤدي إصابات الحبل الشوكي، أو الأمراض العصبية مثل التصلب المتعدد ومرض باركنسون، إلى خلل في التواصل بين الدماغ والمثانة، ما ينتج عنه فرط نشاط المثانة أو ضعف في التحكم البولي.

2. القلق والتوتر النفسي

تؤدي الحالات النفسية مثل اضطرابات القلق والتوتر المزمن إلى تحفيز مفرط للجهاز العصبي الذاتي، ما يسبب تقلصات عضلية غير إرادية في المثانة والشعور الدائم بالحاجة إلى التبول، حتى بدون امتلاء حقيقي للمثانة.

خامسًا: أسباب دوائية وسلوكية

1. مدرات البول

يؤدي استخدام أدوية مدرات البول، والتي تُستخدم لعلاج حالات مثل ارتفاع ضغط الدم أو فشل القلب، إلى زيادة إخراج البول من الكلى وبالتالي كثرة التبول. تشمل هذه الأدوية الفوروسيميد، والهيدروكلوروثيازيد.

2. الكافيين والكحول

يعمل الكافيين (الموجود في القهوة، الشاي، والمشروبات الغازية) والكحول كمدرات طبيعية للبول، مما يزيد من إنتاج البول ويؤدي إلى التبول المتكرر. يمكن أن تؤدي الكميات الكبيرة إلى تفاقم الأعراض، خصوصًا عند الأشخاص المصابين بفرط نشاط المثانة.

3. تناول كميات كبيرة من السوائل

زيادة شرب الماء والسوائل، خاصة في فترات قصيرة، يؤدي بشكل طبيعي إلى زيادة التبول. في بعض الحالات، يفرط الأشخاص في شرب الماء تحت تأثير معلومات صحية خاطئة، ما يسبب إجهادًا للكليتين دون حاجة فعلية لذلك.

سادسًا: الأسباب المرتبطة بالأورام أو الكتل الضاغطة

1. أورام المثانة أو البروستاتا

قد تؤدي الأورام الحميدة أو الخبيثة في المثانة أو غدة البروستاتا (لدى الرجال) إلى تقليل سعة المثانة أو إعاقة مجرى البول، مما يؤدي إلى التبول المتكرر والشعور بعدم الإفراغ الكامل.

2. تضخم البروستاتا الحميد (Benign Prostatic Hyperplasia)

وهو من الأسباب الشائعة لكثرة التبول عند الرجال فوق سن الأربعين. يؤدي التضخم إلى الضغط على الإحليل وصعوبة في تدفق البول، ما يسبب الشعور المتكرر بالحاجة إلى التبول خصوصًا في الليل.

سابعًا: كثرة التبول الليلي (Nocturia)

وهي حالة محددة تتمثل في الاستيقاظ أثناء الليل أكثر من مرة للتبول، وتُعدّ من المظاهر التي تؤثر بشكل كبير على جودة النوم. وقد ترتبط هذه الظاهرة بأمراض القلب، أو ارتفاع ضغط الدم، أو تناول مدرات البول في فترة ما بعد الظهر، أو حتى قصور وظائف الكلى.

جدول توضيحي لأهم الأسباب الشائعة حسب الفئة السكانية

التشخيص الطبي لكثرة التبول

يعتمد التشخيص السليم لكثرة التبول على مجموعة من الإجراءات السريرية والمخبرية، منها:

• تحليل البول الكامل (Urinalysis) للكشف عن العدوى، وجود دم أو جلوكوز.

• اختبار مستوى السكر في الدم (صائم وبعد الأكل).

• فحص وظائف الكلى والكرياتينين.

• تحليل البول على مدار 24 ساعة لتقييم كمية البول الكلية.

• تصوير المثانة بالسونار أو الأشعة المقطعية في حال الاشتباه بوجود كتل أو أورام.

• فحص البروستاتا عبر المستقيم للرجال.

• اختبار ديناميكا البول (Urodynamics) لتقييم سلوك المثانة أثناء الامتلاء والتفريغ.

الخلاصة

إن كثرة التبول ليست دائمًا مؤشرًا على وجود حالة خطيرة، لكنها قد تكشف عن أمراض عضوية مزمنة أو اختلالات في النظام العصبي أو الهرموني تستدعي تدخلًا طبيًا دقيقًا. الفهم العميق للأسباب والعوامل المؤثرة هو الخطوة الأولى نحو التشخيص الدقيق والعلاج الفعال. إن الحفاظ على نمط حياة صحي، مع