أسباب فقر الدم بعوز حمض الفوليك: نظرة طبية شاملة

يُعد فقر الدم بعوز حمض الفوليك أحد الأنواع الشائعة من فقر الدم الناتج عن نقص الفيتامينات، ويحدث عندما تنخفض مستويات حمض الفوليك (فيتامين B9) في الجسم إلى درجة لا تسمح بتكوين خلايا دم حمراء سليمة وكافية. يؤدي هذا النقص إلى خلل في إنتاج الحمض النووي داخل نواة الخلايا، مما يعيق عملية انقسام الخلايا، وخاصة في نخاع العظم حيث يتم تصنيع خلايا الدم. يعد هذا النوع من فقر الدم من المشاكل الصحية ذات التأثير الكبير، خصوصًا في بعض الفئات السكانية مثل النساء الحوامل، والرضّع، والمسنين، والأشخاص الذين يعانون من سوء التغذية أو أمراض مزمنة في الجهاز الهضمي.

في هذا المقال، سيتم تناول الأسباب الرئيسية لفقر الدم بعوز حمض الفوليك بشكل مفصل، إلى جانب الآليات الفسيولوجية والمرضية التي تساهم في تطور هذا الاضطراب، مع الإشارة إلى العوامل البيئية، الغذائية، الوراثية، والدوائية التي تؤدي إلى النقص.

حمض الفوليك ودوره الحيوي في الجسم

حمض الفوليك هو فيتامين ذائب في الماء من مجموعة فيتامينات B، ويُعرف أيضًا بالفيتامين B9. يتوفر في الطبيعة على هيئة “فولات”، ويُمتص بشكل رئيسي في القسم العلوي من الأمعاء الدقيقة، ولا سيما في الاثني عشر والصائم. يلعب حمض الفوليك دورًا محوريًا في تصنيع الأحماض النووية (DNA وRNA)، وهو ضروري لتكاثر الخلايا وتكوين خلايا الدم الحمراء، إضافةً إلى دوره في استقلاب الأحماض الأمينية، وخاصة تحويل الهوموسيستين إلى ميثيونين. كما أن له أهمية كبرى في التطور الجنيني وتكوين الأنبوب العصبي لدى الأجنة.

الأسباب الرئيسية لفقر الدم بعوز حمض الفوليك

1. سوء التغذية

يُعد نقص تناول حمض الفوليك عبر الغذاء من أبرز الأسباب لفقر الدم الناجم عن نقص هذا الفيتامين، وخاصة لدى الفئات التي تعتمد على أنظمة غذائية فقيرة بالخضروات الورقية، والفواكه، والبقوليات. ويشيع ذلك في البيئات الفقيرة، والمجتمعات التي تعتمد على الأغذية المصنعة والمكررة التي تفتقر إلى العناصر الدقيقة الضرورية.

الأطعمة الغنية بحمض الفوليك تشمل:

الاعتماد على أنظمة غذائية تحتوي على كميات منخفضة من هذه الأطعمة يؤدي تدريجيًا إلى استنفاد مخازن حمض الفوليك في الكبد والدم.

2. زيادة الاحتياجات الفسيولوجية

هناك حالات تزداد فيها حاجة الجسم لحمض الفوليك بدرجة لا تكفي معها الكميات الغذائية المعتادة، وتشمل هذه الحالات:

• الحمل: يتضاعف الطلب على حمض الفوليك أثناء الحمل، خاصة في الأشهر الأولى، لدوره الحيوي في تكوين الأنبوب العصبي لدى الجنين. نقصه قد يؤدي إلى عيوب خلقية خطيرة مثل السنسنة المشقوقة.

• الرضاعة: تفقد النساء المرضعات كمية من حمض الفوليك عبر الحليب، مما قد يؤدي إلى نقصه.

• النمو السريع: مثل ما يحدث في فترة المراهقة أو الطفولة المبكرة، حيث يزداد معدل انقسام الخلايا وبالتالي الحاجة لحمض الفوليك.

3. متلازمات سوء الامتصاص

يُعد الامتصاص غير الكافي لحمض الفوليك من الأسباب الشائعة لفقر الدم، حتى وإن كان تناول الشخص الغذائي كافيًا. وتشمل هذه الحالات:

• الداء البطني (السيلياك): يؤدي التهاب الأمعاء نتيجة حساسية الغلوتين إلى تدمير الزغابات المعوية المسؤولة عن امتصاص حمض الفوليك.

• داء كرون: يسبب التهابات مزمنة في الأمعاء الدقيقة تؤثر على امتصاص الفيتامينات.

• الاستئصال الجراحي للأمعاء الدقيقة: كليًا أو جزئيًا، خاصة إذا شمل الجزء العلوي منها.

• الإفراط في استهلاك الكحول: يؤدي إلى تلف بطانة الأمعاء وتثبيط عملية الامتصاص المعوي، بالإضافة إلى تعطيل تخزين حمض الفوليك في الكبد.

4. الأدوية التي تتداخل مع استقلاب حمض الفوليك

تؤثر بعض الأدوية بشكل مباشر أو غير مباشر على امتصاص أو استقلاب حمض الفوليك، ومنها:

• الميثوتريكسات: يستخدم لعلاج السرطان وأمراض المناعة الذاتية، ويثبط إنزيم ديهيدروفولات ريدوكتاز، مما يمنع تحويل حمض الفوليك إلى شكله النشط.

• الكوتريموكسازول (Trimethoprim-Sulfamethoxazole): مضاد حيوي يعيق أيض حمض الفوليك.

• الفينيتوين: دواء مضاد للصرع يقلل من امتصاص حمض الفوليك في الأمعاء.

• الباربيتورات: تؤثر على التوافر الحيوي للفولات.

ينبغي في مثل هذه الحالات مراقبة مستويات حمض الفوليك بانتظام وتعويض النقص عند الحاجة.

5. الكحوليات وتأثيرها المثبط

الكحوليات من أكثر العوامل المؤثرة على مستويات حمض الفوليك لعدة أسباب:

• تعيق امتصاص الفولات في الأمعاء الدقيقة.

• تثبط إنزيمات الكبد التي تحوّل الفولات إلى شكلها النشط.

• تزيد من طرح حمض الفوليك في البول.

• تؤدي إلى تغذية فقيرة بشكل عام، مما يقلل من مصادر الفيتامينات.

الكحوليون المزمنون معرضون بشدة للإصابة بفقر الدم بعوز حمض الفوليك، غالبًا بالترافق مع نقص فيتامين B12 ونقص الحديد.

6. الحالات الوراثية والاضطرابات الجينية

تلعب بعض الطفرات الجينية دورًا في استقلاب حمض الفوليك، وأشهرها:

• طفرة جين MTHFR (Methylenetetrahydrofolate Reductase): تؤدي إلى خلل في تحويل حمض الفوليك إلى الشكل النشط بيولوجيًا (5-MTHF)، مما يعيق استخدامه في تفاعلات الأيض، خاصة في استقلاب الهوموسيستين.

• الأفراد الذين يحملون هذه الطفرات يكونون أكثر عرضة لارتفاع مستويات الهوموسيستين وفقر الدم وأمراض القلب والأوعية.

7. الحروق الشديدة والحالات الالتهابية المزمنة

تؤدي الحروق الواسعة إلى فقدان كمية كبيرة من الفيتامينات والمعادن بسبب النتح الجلدي وفقدان السوائل. كما تزداد الحاجة الاستقلابية لحمض الفوليك بسبب تسارع معدل انقسام الخلايا. ينطبق ذلك أيضًا على الأمراض الالتهابية المزمنة مثل الذئبة والتهاب المفاصل الروماتويدي.

8. أمراض الكلى المزمنة وغسيل الكلى

المرضى الذين يعانون من الفشل الكلوي ويخضعون لغسيل الكلى يفقدون كميات كبيرة من حمض الفوليك مع السوائل المطروحة خلال الغسيل. كما أن الكلى المتضررة تفقد كفاءتها في إعادة امتصاص بعض الفيتامينات، مما يزيد من خطر النقص.

التأثيرات السريرية لفقر الدم بعوز حمض الفوليك

نقص حمض الفوليك لا يقتصر على التأثير الدموي فحسب، بل يتعدى ذلك ليشمل عدة أجهزة في الجسم:

• الجهاز العصبي: التعب، فقدان التركيز، الاكتئاب، وفي الحالات المتقدمة تخلف النمو العقلي عند الأطفال.

• الجهاز القلبي الوعائي: يؤدي تراكم الهوموسيستين في الدم إلى زيادة خطر الإصابة بتصلب الشرايين والجلطات.

• الجهاز التناسلي: يرتبط نقص حمض الفوليك بمشاكل في الخصوبة لدى الجنسين، وارتفاع معدلات الإجهاض التلقائي.

• الجنين والأم الحامل: كما ذُكر، نقص حمض الفوليك خلال الحمل قد يؤدي إلى عيوب الأنبوب العصبي، وتشوهات جنينية خطيرة.

التشخيص

يعتمد تشخيص فقر الدم بعوز حمض الفوليك على عدة محاور:

1. الفحص السريري: يتضمن تقييم الأعراض مثل الإرهاق، شحوب البشرة، اللسان المتورم، اضطرابات المزاج.

2. تحاليل الدم:

   • انخفاض تركيز الهيموغلوبين.

   • ارتفاع حجم الخلية الحمراء (MCV)، مما يشير إلى فقر دم كبير الكريات.

   • انخفاض مستويات حمض الفوليك في الدم.

3. استبعاد نقص فيتامين B12، لأن الأعراض السريرية قد تتشابه بين الحالتين، إلا أن نقص B12 يرتبط عادة بخلل عصبي أشد.

العلاج والوقاية