أسباب عدم فهم الأهل للأبناء

هل تشعر بأن أهلك لا يفهموك؟

في مراحل عديدة من حياة الإنسان، قد يشعر بأن الرابط العاطفي والفكري بينه وبين أسرته قد بدأ يتآكل أو يتلاشى تدريجياً. هذا الشعور، الذي يتكرر كثيراً في مرحلة المراهقة ولكنه لا يقتصر عليها، هو أحد أكثر الأزمات النفسية تعقيداً وتأثيراً على الفرد، إذ يمكن أن يولد عزلة عاطفية حادة، أو انطواءً اجتماعياً، أو حتى اضطرابات سلوكية ونفسية طويلة الأمد. حين يشعر المرء بأن أهله لا يفهمونه، فإن الأمر لا يتعلق فقط باختلاف وجهات النظر، بل يتعلق أحياناً بعدم وجود لغة تواصل مشتركة، أو بغياب المساحات الآمنة للحوار الصادق والمتبادل.

هذا المقال يستعرض هذه الإشكالية العميقة من زوايا متعددة، بدءًا من الجذور النفسية والاجتماعية، مروراً بالأسباب المحتملة، وصولاً إلى تأثيراتها بعيدة المدى، مع الاستناد إلى نظريات علم النفس العائلي والتواصل البشري.

أولاً: الإطار النفسي لمشكلة “اللا فهم” داخل الأسرة

يشير علماء النفس إلى أن الشعور بعدم الفهم من قبل الأهل يمكن أن يكون نتيجة لتراكم تجارب سلبية صغيرة في مرحلة الطفولة والمراهقة، حيث يشعر الطفل بأنه غير مسموع أو أن مشاعره لا تحظى بالاعتبار. عندما يتكرر هذا النمط من التجاهل العاطفي، يبدأ الدماغ بتشكيل قناعة بأن الآخر (الأهل تحديداً) غير قادرين على رؤية الشخص كما هو فعلاً. هذه الفجوة الإدراكية لا تنشأ فجأة، بل تتشكل عبر سنوات من التواصل غير المكتمل أو المبني على فرضيات غير صحيحة.

عندما يشعر الفرد بأن لا أحد يفهمه، يتولد لديه شعور بالوحدة حتى وسط العائلة، وقد يبدأ بتطوير آليات دفاعية مثل التمرد، أو الصمت المزمن، أو الهروب العاطفي، مما يزيد الفجوة بدلاً من تقليصها.

ثانياً: الأسباب المتكررة لغياب الفهم بين الأبناء والأهل

1. اختلاف الأجيال:
   
   يعود جزء كبير من سوء الفهم إلى ما يعرف بـ”الهوة الجيلية”، حيث تختلف قيم الجيل الجديد عن قيم الجيل الأقدم. الأبناء اليوم يعيشون في عصر تكنولوجي منفتح، يتبنون مفاهيم مرنة حول الهوية والحرية والنجاح، في حين أن الأهل نشأوا في ظروف اقتصادية وثقافية أكثر تحفظاً وأقل تغيراً.

2. توقعات الأهل العالية:
   
   في كثير من الأحيان، يضع الأهل على كاهل أبنائهم توقعات غير واقعية تتعلق بالدراسة، أو العمل، أو السلوك، معتقدين أن تلك التوقعات تمثل “الطريق الأمثل للحياة”. وعندما يعجز الأبناء عن تحقيق تلك الرؤى، يتولد شعور بالفشل والانفصال العاطفي.

3. نقص الحوار الحقيقي:
   
   العديد من الأسر تفتقد لثقافة الحوار المفتوح، حيث يكون التواصل مقتصراً على التعليمات والنصائح بدلاً من الإصغاء والمناقشة. لا يُمنح الأبناء غالباً مساحة للتعبير عن مشاعرهم بصدق دون الخوف من التقييم أو العقاب.

4. الإسقاط النفسي:
   
   يلجأ بعض الأهل إلى إسقاط تجاربهم ومخاوفهم على أبنائهم دون وعي، فيرون فيهم نسخة من أنفسهم أو يسعون لتصحيح ماضٍ شخصي من خلالهم، مما يجعل العلاقة مبنية على توقعات أكثر منها على تقبل الفرد كما هو.

5. الاختلافات الشخصية والنفسية:
   
   ليس بالضرورة أن يكون الأهل والأبناء متشابهين في الطباع والميول النفسية. بعض الشخصيات تميل إلى الانطواء، بينما أخرى نحو التعبير المباشر. عندما لا يتقبل أحد الطرفين هذا الاختلاف الطبيعي، قد ينشأ سوء فهم دائم.

ثالثاً: الأثر النفسي العميق لغياب الفهم الأسري

غياب الشعور بالفهم داخل الأسرة لا يمر دون أثر. بل قد يترك جراحاً داخلية يصعب تضميدها في المستقبل، خاصة إن لم يتم الاعتراف بها أو التعامل معها بطريقة ناضجة. من أبرز التأثيرات النفسية:

• انعدام الثقة في الذات:
  
  الفرد الذي لا يشعر أنه مسموع من قبل أقرب الناس إليه، قد يبدأ بالتشكيك في مشروعية مشاعره، وقد يفقد الثقة بقراراته واختياراته.

• اللجوء إلى البدائل السامة:
  
  قد يبحث البعض عن التعويض العاطفي خارج الأسرة، في علاقات غير صحية أو عبر الإنترنت أو الانغماس في العزلة، مما يزيد من احتمالية الوقوع في الإدمان أو العلاقات السامة.

• تأخر النضج العاطفي:
  
  التفاهم الأسري يمثل بيئة آمنة لتعلم التعبير عن المشاعر والتفاعل الصحي مع الاختلافات. غيابه قد يؤدي إلى بقاء الفرد في حالة من الانغلاق أو العجز عن تكوين علاقات صحية مستقبلاً.

• اضطرابات سلوكية ونفسية:
  
  الدراسات الحديثة تربط بين ضعف الروابط العائلية وارتفاع معدلات الاكتئاب، والقلق، واضطرابات الأكل، وحتى التفكير الانتحاري في الحالات القصوى.

رابعاً: تجليات المشكلة في الحياة اليومية

عندما يشعر أحد أفراد الأسرة بعدم الفهم، فإن هذا الشعور لا يظل حبيساً في الداخل، بل يظهر عبر العديد من السلوكيات، مثل:

• الصمت الطويل أثناء الاجتماعات العائلية.

• رفض المشاركة في أنشطة الأسرة.

• الانفعال الزائد تجاه أي ملاحظة أو نقد.

• قضاء وقت طويل في العزلة أو على وسائل التواصل الاجتماعي.

• تغيّر المزاج بشكل حاد وغير مبرر.

خامساً: الجانب الثقافي والاجتماعي للمشكلة

في بعض الثقافات، لا يزال يُنظر إلى مشاعر الأبناء على أنها “ثانوية” أو حتى “غير ناضجة”، ولا يتم التعامل معها بجدية. هذا النمط من التهميش العاطفي قد يؤدي إلى توارث أنماط غير صحية من التربية. فالأب الذي لم يُسمح له بالتعبير عن ضعفه، قد لا يتمكن من تقبّل بكاء ابنه أو شكواه. وهكذا تستمر دائرة الجهل العاطفي.

من ناحية أخرى، فإن بعض المجتمعات تشجع على التماهي الكامل مع العائلة، مما يخلق ضغطاً نفسياً على الأبناء ليتخلّوا عن فرديتهم، ويؤدي بالتالي إلى تضخم الشعور باللا فهم ورفض الذات.

سادساً: ضرورة خلق وعي أسري جديد

الحل لا يكمن فقط في محاولة الأبناء “التحمّل”، بل في بناء جسور جديدة من التواصل الوجداني والمعرفي. من الضروري أن تتبنى العائلات منظوراً أكثر مرونة، يعترف بشرعية مشاعر جميع الأفراد. يجب تشجيع ثقافة الحوار، التي تستند إلى الاستماع الفعّال بدلاً من إصدار الأحكام.

سابعاً: الجدول التالي يوضح الفروق بين الأسرة التي تفهم أفرادها وتلك التي لا تفهمهم

ثامناً: نحو مستقبل أكثر تفهّماً

إن الشعور بأن الأهل لا يفهمونك ليس وصمة ولا إشارة إلى ضعفك، بل هو نداء داخلي لتصحيح مسار العلاقة وبناء مساحات آمنة من الحوار. الفهم ليس اتفاقاً دائمًا على كل شيء، بل هو قبول غير مشروط بإنسانية الآخر، حتى في اختلافه. وتعلّم الأهل لهذا الفهم هو عملية تحتاج إلى وعي، وإرادة، وتحرر من الأنماط القديمة.

التواصل الحقيقي يتطلب أن نتعلم كيف نصغي قبل أن نتحدث، أن نتفهم قبل أن نحكم، وأن نحتوي قبل أن ننتقد. وبينما لا يمكن للفرد أن يغيّر ماضيه العائلي، إلا أن بوسعه دائماً أن يسعى لخلق واقع عاطفي جديد أكثر صدقاً، ودفئاً، وإنسانية.

المراجع:

1. Carl Rogers, On Becoming a Person, Houghton Mifflin, 1961.

2. Virginia Satir, The New Peoplemaking, Science and Behavior Books, 1988.