أسباب ضعف التوكل على الله

أسباب ضعف التوكل على الله

يُعد التوكل على الله من أعظم العبادات القلبية التي تميز المؤمن الصادق عن غيره، وهو دليل عميق على قوة الإيمان ورسوخه في قلب العبد. والتوكل ليس مجرد لفظ يُقال أو شعور سطحي عابر، بل هو اعتماد قلبي شامل على الله مع الأخذ بالأسباب المشروعة، مع اليقين الجازم بأن الله وحده هو المدبّر والمصرّف للأمور، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وقد أثنى الله تعالى على عباده المتوكلين في مواضع كثيرة من كتابه الكريم، فقال سبحانه: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران: 122]، وقال عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 159].

إلا أن الواقع المعاصر يشهد ضعفًا ظاهرًا في توكل الكثير من الناس على الله، وهو ضعف خطير يترك أثرًا سلبيًا على العقيدة والسلوك والنفس والمجتمع. ولعل من الضروري التوقف عند الأسباب العميقة التي تؤدي إلى ضعف التوكل، لتحليلها وتفكيك جذورها، ومعالجة مظاهرها ضمن رؤية دينية شاملة.

أولًا: ضعف الإيمان بالله وأسمائه وصفاته

السبب الجذري الأول لضعف التوكل هو ضعف الإيمان بالله، فالتوكل فرع عن قوة الإيمان. إن من لا يعرف الله حق المعرفة، لا يمكن أن يثق به أو يعتمد عليه أو يُسلم له أموره. فالتوكل يرتكز على إدراك أن الله هو الرزّاق، القادر، العليم، الحكيم، السميع، البصير، المدبر، المتصرف، الذي بيده مقاليد السماوات والأرض.

ضعف الإيمان بأسماء الله وصفاته، كاسمه “الوكيل” و”الرزاق” و”الكافي”، يؤدي إلى ضعف الثقة به، مما يجعل الإنسان يبحث عن الطمأنينة والاعتماد في غير الله من البشر أو الأسباب المادية.

ثانيًا: الجهل بحقيقة التوكل ومفهومه الشرعي

كثير من الناس يخلط بين التواكل والتوكل، أو يظن أن التوكل هو ترك الأسباب والركون للراحة وانتظار النتائج بلا سعي أو جهد. والبعض الآخر يظنه مجرد لفظ يُقال على اللسان مثل “توكلت على الله” دون أن يتبعه عمل قلبي أو سلوك عملي.

الجهل بحقيقة التوكل كونه عبادة قلبية لها أركان وشروط يُضعف حضورها في حياة المسلم. ومن أهم شروط التوكل: صدق الاعتماد القلبي على الله، مع السعي في الأسباب المباحة، والثقة الكاملة في تصريف الله للأمور.

ثالثًا: المبالغة في الاعتماد على الأسباب الدنيوية

من مظاهر ضعف التوكل أن يعتمد الإنسان بشكل مفرط على الأسباب المادية دون التفات إلى مسبب الأسباب. وهذا الميل المفرط نحو الأسباب قد يجعل العبد يظن أن النجاح مرهون بقدراته الشخصية أو العلاقات أو المال أو الوسائط، وينسى أن الله وحده هو الذي يسير الأسباب ويوجهها.

وقد نهى الشرع عن الغلو في الاعتماد على الأسباب، لأن ذلك يتنافى مع كمال الإيمان. فالمسلم مطالب بأخذ الأسباب دون أن يركن إليها، وأن يضع ثقته الكاملة في الله تعالى، فهو وحده الذي يُقدّر النتائج.

رابعًا: الخوف والقلق على الرزق والمستقبل

القلق بشأن المستقبل، والخوف من الفقر، والحرص الزائد على الأمور الدنيوية، كلها عوامل نفسية تؤدي إلى ضعف التوكل. وهذا الخوف قد يدفع الإنسان إلى الكذب أو الخيانة أو أكل المال الحرام، ظنًا منه أن هذه الوسائل تحفظ له أمنه أو رزقه.

إنّ من أعظم ما يقوّي التوكل إدراك أن الله هو الرزّاق، وأنه كتب أرزاق العباد قبل أن يُخلقوا، وأنه لا يموت عبد حتى يستوفي رزقه. فالفقر أو الغنى، النجاح أو الفشل، كل ذلك بتقدير الله، وليس بجشع الإنسان أو حيلته.

خامسًا: ضعف التربية الإيمانية في الأسرة والمجتمع

من الأسباب المؤثرة في ضعف التوكل غياب التربية الإيمانية الصحيحة منذ الطفولة. فالأسرة والمدرسة والمجتمع لا تولي عادةً جانب التربية على التوكل ما يستحقه من اهتمام، فلا يُغرس في الأطفال والناشئة أن الله هو الوكيل الكافي، وأنه لا ينبغي التعلق بالبشر.

عندما ينشأ الطفل على الاعتماد المفرط على والديه أو على شهادته أو على علاقاته دون أن يُربى على الاعتماد على الله أولًا، فإنه يدخل مرحلة الشباب وقد غاب عن قلبه عنصر التوكل، مما يخلق شخصية مهزوزة، قلقة، مترددة، تبحث عن الطمأنينة في غير موضعها.

سادسًا: ضعف الثقة بوعد الله ونصره

التوكل الحقيقي يتطلب يقينًا بوعد الله، وبأن نصره قادم لا محالة، وأنه لا يضيع أجر من أحسن عملًا. لكن من ضعف التوكل أن يُصاب الإنسان باليأس عندما تتأخر الإجابة، أو عندما يرى أن الظالم قد طغى، أو أن الظروف لا تسير في صالحه.

ضعف اليقين بنصر الله يجعل العبد يلجأ إلى الوسائل غير الشرعية، ظنًا منه أن الله قد تخلّى عنه، أو أن الطريق الشرعي لا يُجدي نفعًا. فيتخلى عن الدعاء، ويترك الصبر، ويستسلم للمغريات، وهنا تتجلى صورة من صور ضعف التوكل في أدق حالاته.

سابعًا: التأثر بالثقافة المادية الحديثة

يعيش الإنسان المعاصر في بيئة مادية خالصة تُمجّد العقل، وتقدّس التكنولوجيا، وتُهمل الإيمان. هذه الثقافة التي تُقنع الإنسان أن مستقبله بيده، وأن النجاح يتحقق فقط بالمعايير البشرية، قد سحبت البساط من تحت أقدام التوكل الحقيقي.

الإعلام، والبرامج التدريبية، والنظم التعليمية، كلها تركّز على الذات والقدرة الفردية والنجاح الشخصي، مما يضعف في النفس الشعور بأن هناك ربًا متصرفًا، وأن الإنسان عبد ضعيف لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا.

ثامنًا: ضعف الصلة بالقرآن والسنة

القرآن والسنة يزخران بالنصوص التي ترسخ معاني التوكل وتُعزّزها، وتُقدّم نماذج عملية من سيرة الأنبياء والصالحين في التوكل على الله في أحلك الظروف. ولكن حين ينقطع الإنسان عن كتاب الله وهدي نبيه، فإنه يفقد هذا المورد الأساسي الذي يُغذي قلبه بالإيمان.

كلما ضعف الارتباط بالقرآن، قلّ استحضار الإنسان لقدرة الله، وضعفت ثقته في رحمته، وسهل عليه أن يُسلّم نفسه للهموم، ويعيش في حالة من التخبط الداخلي.

تاسعًا: ضعف الدعاء والانكسار بين يدي الله

الدعاء باب عظيم من أبواب التوكل، فالمتوكل لا يكفّ عن سؤال الله، وهو في حالة دائمة من الانكسار والتضرع والاستغفار. أما من ضعف توكله، فإنه يعتمد على نفسه، ولا يلجأ إلى الله إلا في أضيق الظروف، وقد لا يدعو الله أصلًا.

وغياب الدعاء يُضعف القلب، ويجعل النفس تتكل على ما تملك لا على خالقها، فتقع في الغرور، أو اليأس، أو الحيرة، وكل ذلك من مظاهر ضعف التوكل.

عاشرًا: تجارب الماضي السلبية

أحيانًا تؤدي التجارب القاسية التي مر بها الإنسان في حياته إلى فقدان الثقة بكل شيء، حتى في الله. فمن أصيب بفقد أو خذلان أو ظلم أو فقر شديد، قد يُصاب باليأس، فيظن أن الله لم يستجب له، أو أنه غير محبوب عند الله.

هذه النظرة الخاطئة للحياة، إذا لم تُعالج إيمانيًا، تقود إلى ضعف التوكل، لأن القلب لا يعود يثق في رحمة الله ولا في حكمته، ويبدأ في الاعتماد على ذاته أو على الناس.

جدول يوضح العلاقة بين الأسباب ومظاهر ضعف التوكل

من خلال هذا العرض يتبين أن ضعف التوكل على الله لا يرجع إلى سبب واحد، بل هو نتيجة تفاعل مركّب بين عناصر إيمانية، معرفية، نفسية، اجتماعية، وثقافية. ولا يمكن تقوية التوكل إلا من خلال إعادة بناء العلاقة مع الله، وتزكية النفس، وتصحيح المفاهيم، واستحضار حقيقة العبودية. ولعلّ كل من يسعى إلى السكينة والطمأنينة يجد في التوكل ملاذه الأعظم، وفي الثقة بالله راحته الكبرى.

المراجع

1. ابن القيم، مدارج السالكين

2. ابن تيمية، مجموع الفتاوى