8 أسباب وراء شعور الناس بالضياع في حياتهم

في عصر تتسارع فيه التغيرات على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والتقنية، بات الشعور بالضياع واحداً من أكثر المشاعر الإنسانية شيوعاً في القرن الحادي والعشرين. يعيش الكثير من الأفراد حالات من الحيرة والقلق والفراغ الوجودي، وتصبح الأسئلة المتعلقة بالهوية والغاية والاتجاه أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. وقد يبدو هذا الإحساس بالضياع كأنه ظاهرة شخصية، إلا أن جذوره في الحقيقة تمتد إلى عناصر مركبة ترتبط بالبيئة الاجتماعية، والتنشئة النفسية، ومراحل التطور الفردي، والضغوط الثقافية والإعلامية. في هذا المقال الموسّع، نُسلّط الضوء على ثمانية أسباب مركزية تقف وراء هذا الشعور، مع تحليل علمي ومعرفي لكل سبب، مدعوم بمرجعيات نفسية واجتماعية وتاريخية.

1. غياب المعنى والهدف في الحياة

يُعتبر فقدان الشعور بالمعنى أحد أبرز أسباب الضياع الداخلي لدى الأفراد. الإنسان بطبيعته كائن يبحث عن الغاية، وبدونها يشعر وكأنه يسير في فراغ لا متناهٍ. في الكثير من الحالات، لا يكون غياب الهدف نتيجة نقص الإمكانات، بل ناتج عن غياب التوجيه منذ المراحل المبكرة من الحياة. التربية القائمة على التلقين دون توجيه نحو الهوية الشخصية والاهتمامات الذاتية تسهم في خلق أفراد يفتقرون إلى تصور واضح لما يريدونه من الحياة. وفي مجتمعات تسود فيها القيم المادية ويُقاس النجاح بالمال والشهرة فقط، يُصبح السعي للمعنى الروحي أو الأخلاقي ترفاً غير مُتاح للجميع.

تُشير نظرية فيكتور فرانكل، الطبيب النفسي النمساوي ومؤسس “العلاج بالمعنى” (Logotherapy)، إلى أن الإنسان حين يفتقد هدفاً سامياً يتجاوز ذاته، فإنه يصبح عرضة للاكتئاب والفراغ الوجودي والشعور بالضياع. إن وجود هدف واضح لا يعني بالضرورة تحقيق إنجازات ضخمة، بل يتعلق بامتلاك مسار حياتي يُشعر الإنسان بأنه يسهم بشيء يتجاوز وجوده الفردي.

2. التوقعات المجتمعية والضغط الثقافي

تشكل التوقعات الاجتماعية عبئاً ثقيلاً على الأفراد، خصوصاً في البيئات التي تفرض مسارات معينة على الناس دون أخذ ميولهم أو ظروفهم بعين الاعتبار. قد يُجبر الشاب على دراسة تخصص لا يحبّه لإرضاء أسرته، أو يُدفع الفرد نحو الزواج أو الإنجاب في سن مبكرة فقط لأن المجتمع يرى ذلك “الطبيعي”. هذه الانحرافات عن المسار الذاتي تخلق فجوة بين ما يعيشه الشخص وما يرغب فيه حقاً، ما يؤدي تدريجياً إلى الإحساس بالضياع والانفصال عن الذات.

كما تلعب وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي دوراً كبيراً في تضخيم هذه التوقعات من خلال نشر صور مثالية عن الحياة الناجحة، مما يجعل الإنسان يشعر بأنه دائماً في موقع المقارنة، ويقارن نفسه بمعايير غير واقعية أو لا تُناسب طبيعته الفردية.

3. التعرض للصدمات النفسية في مراحل مبكرة

الصدمات النفسية التي يتعرض لها الإنسان في الطفولة أو المراهقة يمكن أن تترك آثاراً عميقة وطويلة الأمد، وتؤثر في قدرته على بناء هوية متماسكة ومتصالحة مع الذات. قد تشمل هذه الصدمات الإهمال العاطفي، أو التعنيف الجسدي، أو الانفصال الأسري، أو حتى الفقدان المبكر لأحد الأبوين. تؤدي هذه التجارب إلى شعور دفين بعدم الأمان وغياب الاستقرار الداخلي، ما يجعل الشخص أكثر عرضة للتشويش الداخلي والشعور بالضياع.

العلاج النفسي التحليلي، وكذلك مدارس العلاج السلوكي الجدلي (DBT) والعلاج بالتعرض (Exposure Therapy)، تؤكد جميعها على أهمية مواجهة هذه الصدمات بشكل منهجي وعلاجي من أجل استعادة التوازن النفسي وبناء هوية سليمة.

4. العزلة الاجتماعية وفقدان العلاقات العميقة

على الرغم من تزايد وسائل التواصل الاجتماعي، يعاني الإنسان المعاصر من عزلة داخلية متفاقمة. العلاقات السطحية أو التفاعلات الافتراضية لا يمكن أن تُعوّض العلاقات الإنسانية العميقة، التي تُبنى على التفاهم والدعم والثقة. ومع تقلص العلاقات العائلية وابتعاد الأصدقاء بسبب وتيرة الحياة السريعة، يجد الكثيرون أنفسهم دون شبكة دعم عاطفية حقيقية.

هذا النوع من العزلة يسهم في فقدان البوصلة النفسية، حيث لا يجد الفرد من يشاركه الأفكار والهموم والمخاوف، فيبدأ بالشعور وكأن لا أحد يفهمه أو يهتم لأمره، وهو ما يُعزز الشعور بالضياع.

5. فقدان الهوية الذاتية

الهوية ليست أمراً يُولد به الإنسان، بل هي مشروع يتطور على مدى الحياة. وتتأثر الهوية الفردية بعدة عناصر مثل البيئة الأسرية، والثقافة، والدين، والتعليم، والتجارب الحياتية. عندما تتداخل هذه العوامل بطريقة غير متوازنة، أو عندما يتعرض الإنسان لانفصال بين هويته الأصلية والثقافة المحيطة به (كما في حالة المهاجرين أو المنفيين)، يصبح معرضاً لفقدان الإحساس بهويته، مما يدفعه إلى الشعور بعدم الانتماء والضياع.

تشير الدراسات في علم النفس الثقافي إلى أن الأفراد الذين ينمون في بيئات متعددة الثقافات بدون تأطير نفسي متماسك، يصبحون أكثر عرضة للارتباك في تحديد هويتهم الشخصية، وهو ما يؤدي إلى غموض داخلي دائم.

6. القلق الوجودي وتزايد الوعي الذاتي

مع ازدياد مستوى الوعي والفكر التحليلي لدى بعض الأشخاص، يظهر نوع خاص من القلق يُسمى بـ”القلق الوجودي”، حيث يواجه الإنسان أسئلة عميقة عن معنى الحياة والموت، وعن جدوى الجهد البشري، وعن المصير النهائي. هذا النوع من القلق ليس سلبياً في جوهره، ولكنه إذا لم يُصاحب بفلسفة شخصية متماسكة، يمكن أن يتحول إلى أزمة داخلية حقيقية، تخلق شعوراً بالضياع والحيرة.

الفلاسفة الوجوديون أمثال جان بول سارتر وألبير كامو تناولوا هذا الموضوع بعمق، مؤكدين أن على الإنسان أن يصنع معناه بنفسه، لكن هذه المهمة الشاقة ليست سهلة، وتتطلب وعياً عالياً ومرونة نفسية ومعرفية.

7. تغيّر نمط الحياة بشكل مفاجئ

قد تؤدي التغيرات الكبرى في الحياة إلى اضطرابات مؤقتة أو دائمة في الإحساس بالاتجاه والمعنى. من بين هذه التغيرات: فقدان الوظيفة، الهجرة، الطلاق، وفاة شخص قريب، أو حتى التقاعد. كل هذه المحطات قد تُحدث شرخاً في الشعور بالاستقرار، وتجعل الفرد يُعيد تقييم أولوياته، وربما يشكك في جميع اختياراته السابقة.

الفرد في مثل هذه الحالات يمرّ بما يُعرف في علم النفس بأزمة الهوية المؤقتة، والتي قد تتطور إلى حالة مزمنة من الاغتراب الذاتي إذا لم يتم التعامل معها بوعي وإعادة بناء رؤية جديدة للحياة.

8. الإدمان على التكنولوجيا وفقدان الاتصال مع الذات

في عالم يُهيمن عليه الاستهلاك الرقمي، أصبح الإنسان مهدداً بفقدان صلته بذاته. الإدمان على الهواتف الذكية، وتطبيقات الترفيه، وألعاب الفيديو، ووسائل التواصل، يؤثر بشكل مباشر على القدرات التأملية، والتواصل الداخلي، والتفكير العميق. يُستهلك وعي الإنسان باستمرار في معالجة محتوى خارجي، ما يُعيقه عن الغوص في داخله.

تشير الأبحاث الحديثة في علم الأعصاب إلى أن الاستخدام المفرط للتكنولوجيا يؤثر سلباً على المناطق الدماغية المسؤولة عن الانتباه والذاكرة طويلة المدى واتخاذ القرار، كما يرتبط بزيادة معدلات القلق والاكتئاب. هذا الانفصال عن الذات الناتج عن الانغماس الرقمي يجعل الإنسان يعيش حياة سطحية، ويشعر بأنه ضائع حتى وإن كان محاطاً بكل الوسائل الحديثة.

جدول: مقارنة بين الأسباب الثمانية وتأثيرها المتوقع

خاتمة

الشعور بالضياع ليس حالة عارضة بل تجربة وجودية معقدة، تتشابك فيها عوامل نفسية وثقافية وبيئية. ولا يكفي مجرد البحث عن مخرج سريع من هذا الشعور، بل يتطلب الأمر فهماً عميقاً للذات، وإعادة هيكلة التصورات الذهنية، وبناء منظومة قيم ومعنى تتناغم مع طبيعة الإنسان وأهدافه الأصيلة. إن مواجهة الضياع ليست نهاية بل بداية لرحلة بحث جادّ عن حياة أكثر وعياً، وأعمق تواصلاً مع الذات والآخرين.

المراجع:

• Frankl, V. E. (1985). Man’s Search for Meaning. Washington Square Press.

• Yalom, I. D. (1980). Existential Psychotherapy. Basic Books.