أول من اكتشف الدورة الدموية الصغرى في الإنسان

تمثل الدورة الدموية الصغرى إحدى الاكتشافات المحورية في علم التشريح والفيزيولوجيا الطبية، وتعدّ واحدة من أكثر الإنجازات العلمية تأثيرًا في تاريخ الطب. يتجلى هذا الاكتشاف في فهم كيفية انتقال الدم من القلب إلى الرئتين ومن ثم عودته إليه محملًا بالأوكسجين، مما ساهم بشكل جوهري في تغيير الطريقة التي نُظر بها إلى الجسم البشري منذ العصور الوسطى وحتى يومنا هذا.

يرتبط اكتشاف الدورة الدموية الصغرى باسم الطبيب والعالم العربي المسلم ابن النفيس، الذي يُعد أول من وصف هذه الدورة وصفًا دقيقًا ومفصلًا في مؤلفاته الطبية، قبل أن يُعاد اكتشافها لاحقًا في أوروبا من قبل علماء آخرين. وقد ظل هذا الاكتشاف مغفولًا عنه في الغرب لعدة قرون حتى أُعيد اكتشافه وترجمته من المخطوطات العربية. يمثل هذا الحدث شاهدًا حيًا على المساهمة العربية والإسلامية في تطور العلوم الطبية في العالم.

خلفية تاريخية

قبل ظهور نظرية الدورة الدموية الصغرى، كان الفكر الطبي القديم يعتنق نظريات فيزيولوجية مغلوطة استمرت لقرون، أبرزها ما أورده جالينوس (Galen) الطبيب اليوناني الشهير في القرن الثاني الميلادي. حيث اعتقد أن الدم يتولد في الكبد ويتوزع في الجسم دون أن يدور، وأن هناك ثقوبًا غير مرئية في الحاجز الفاصل بين بطيني القلب تسمح بمرور الدم من الجانب الأيمن إلى الأيسر.

وقد هيمنت هذه الأفكار على الفكر الطبي الأوروبي والعربي على حد سواء لعدة قرون، إلى أن جاء ابن النفيس بنظريته الجديدة التي شكّلت ثورة في فهم الدورة الدموية.

من هو ابن النفيس؟

اسمه الكامل علاء الدين أبو الحسن علي بن أبي الحزم القرشي الدمشقي، وُلد في دمشق عام 1213م (607 هـ) وتوفي في القاهرة عام 1288م (687 هـ). درس الطب في البيمارستان النوري بدمشق، وهو أحد أشهر المستشفيات والمدارس الطبية في العصر العباسي، حيث تتلمذ على يد أساتذة كبار وتأثر بالفكر العلمي والمنهجي الذي ساد تلك الفترة.

انتقل إلى القاهرة حيث عُين رئيسًا لأطباء المستشفى الناصري، ثم مستشفى المنصوري الذي أسسه السلطان قلاوون. وعُرف ابن النفيس بغزارة علمه واتساع مجالات بحثه، حيث ألّف عشرات المؤلفات في الطب والفلسفة واللغة والحديث، إلا أن أبرز مؤلفاته كان كتابه “شرح تشريح القانون”، الذي فصّل فيه ملاحظاته التشريحية والنظرية عن الدورة الدموية.

اكتشاف الدورة الدموية الصغرى

في كتابه “شرح تشريح القانون”، الذي كتبه شرحًا وتعليقًا على كتاب “القانون في الطب” لابن سينا، خالف ابن النفيس ما قاله جالينوس بشأن انتقال الدم من البطين الأيمن إلى البطين الأيسر عبر مسامات غير مرئية في الحاجز بينهما. وأثبت من خلال دراسته وتشريحه أن:

• الحاجز بين البطينين غير منفذ للدم ولا توجد به ثقوب.

• الدم ينتقل من البطين الأيمن إلى الرئتين عبر الشريان الرئوي.

• في الرئتين، يمتزج الدم بالهواء ويحدث فيه نوع من التفاعل الحيوي.

• يعود الدم المحمل بالأوكسجين إلى البطين الأيسر عبر الوريد الرئوي.

هذا الوصف يُعتبر أول توثيق علمي دقيق لما نعرفه اليوم باسم الدورة الدموية الصغرى.

النص الأصلي لابن النفيس حول الدورة الدموية الصغرى

من أشهر ما ورد في نص ابن النفيس في كتابه:

“وأما ما زعمه جالينوس من أن الدم يرشح من البطين الأيمن إلى البطين الأيسر من القلب من خلال ما يُتوهم أنه منافذ في الحاجز، فذلك باطل، إذ أن الحاجز بين البطينين سميك، لا منافذ فيه ألبتة، والدم إنما ينتقل من البطين الأيمن إلى الرئتين عبر الشريان الرئوي، وهناك يمتزج بالهواء، ثم يعود إلى البطين الأيسر بواسطة الوريد الرئوي”.

هذا النص يُعتبر نفيًا مباشرًا وصريحًا لتصورات جالينوس، وإثباتًا لوجود دورة دموية صغرى تربط بين القلب والرئتين.

أهمية هذا الاكتشاف

إن اكتشاف ابن النفيس لم يكن مجرد تصحيح لفكرة خاطئة، بل كان تأسيسًا لفهم فيزيولوجي جديد لمفهوم الدورة الدموية. ويمكن تلخيص أهمية هذا الاكتشاف في النقاط التالية:

1. تجاوز الفكر التقليدي: كان اكتشاف ابن النفيس بمثابة كسر لحاجز التقليد الأعمى للنظريات القديمة السائدة، وأثبت أن التشريح والملاحظة العلمية الدقيقة أهم من التسليم المطلق بأقوال السلف.

2. أساس لفهم الدورة الدموية الكبرى لاحقًا: دون فهم الدورة الدموية الصغرى، لا يمكن تصور اكتشاف الدورة الدموية الكبرى التي اكتشفها لاحقًا وليم هارفي في القرن السابع عشر.

3. نقلة نوعية في الطب العربي الإسلامي: أسهم هذا الاكتشاف في تعزيز مكانة الطب الإسلامي كمنظومة علمية قائمة على المنهج التجريبي والتشريحي، لا على النقل فقط.

4. أثره في الطب الأوروبي لاحقًا: رغم أن اكتشاف ابن النفيس لم يُعرف في أوروبا إلا متأخرًا، إلا أن ترجمته أثرت على تطور الطب الأوروبي فيما بعد عصر النهضة.

مقارنة بين ابن النفيس ووليم هارفي

جدول: مقارنة بين ابن النفيس ووليم هارفي في دراسة الدورة الدموية

من خلال الجدول، يظهر أن ابن النفيس سبق هارفي بأربعة قرون تقريبًا في فهم جزء أساسي من الدورة الدموية، ويؤكد أن النهضة العلمية الأوروبية ارتكزت في كثير من جوانبها على التراث العلمي الإسلامي والعربي.

تأخر الاعتراف باكتشاف ابن النفيس

لم يُعترف باكتشاف ابن النفيس في الدوائر العلمية الغربية إلا بعد أن اكتشف المستشرق ماكس مايرهوف (Max Meyerhof) المخطوطة التي تضم شرح ابن النفيس لكتاب القانون، حيث قام بنشرها وترجمتها إلى الإنجليزية في أوائل القرن العشرين. وبذلك أُعيد الاعتبار لابن النفيس كأول من وضع وصفًا دقيقًا للدورة الدموية الصغرى.

لقد أشار مايرهوف في أبحاثه إلى أن ابن النفيس وصف الدورة الدموية الصغرى بدقة بالغة تفوق حتى ما ورد لاحقًا عند بعض العلماء الأوروبيين الذين سبقوا هارفي مثل سيرفيتوس وريالدو كولومبو.

الأثر العلمي والثقافي لاكتشاف ابن النفيس

يمثل اكتشاف ابن النفيس علامة فارقة في تطور العلوم الطبية في العصور الوسطى، حيث إنه:

• أحدث تغييرًا في مفاهيم التشريح والفيزيولوجيا.

• أثبت قدرة العلماء المسلمين على إنتاج معرفة علمية أصيلة تتجاوز حدود النقل والتقليد.

• كان بمثابة قاعدة انطلقت منها مفاهيم أخرى في فهم الأعضاء الحيوية للجسم.

كما ساهم هذا الاكتشاف في ترسيخ أهمية المنهج التجريبي والتشريحي في دراسة الطب، وهو ما كان غائبًا بشكل كبير عن الفكر الأوروبي حتى بداية عصر النهضة.

مؤلفات ابن النفيس

لم يقتصر ابن النفيس على اكتشاف الدورة الدموية الصغرى، بل كتب في العديد من العلوم، ومن أبرز مؤلفاته:

• شرح تشريح القانون: وهو أهم مؤلفاته، ويضم وصفه للدورة الدموية الصغرى.

• الموجز في الطب: كتاب مبسط للطلاب في العلوم الطبية.

• الرسالة الكاملية في السيرة النبوية: مؤلف فلسفي وديني.

• شرح فصول أبقراط.

• شرح قانون ابن سينا.

وقد تميزت مؤلفاته بالجمع بين الفلسفة والمنطق والملاحظة التشريحية الدقيقة، ما يجعلها نموذجًا على مستوى عالٍ من التكامل العلمي.

وفاته وإرثه العلمي

توفي ابن النفيس في القاهرة سنة 1288م عن عمر يناهز 75 عامًا، ودفن بالقرب من القرافة. وقد أوصى بكل كتبه ومخطوطاته إلى المستشفى المنصوري الذي عمل فيه، إيمانًا منه بأهمية العلم وتوارث المعرفة للأجيال القادمة.

يظل إرثه العلمي شاهدًا على عبقرية فذة سبقت عصرها، وتستحق الاعتراف والتقدير من الأوساط العلمية والطبية في كل مكان.

الخلاصة

إن اكتشاف الدورة الدموية الصغرى على يد ابن النفيس يمثل واحدة من أعظم إنجازات الطب الإسلامي والعالمي، حيث ساهم في تغيير جذري لفهم آلية عمل القلب والرئتين والدورة الدموية. وعلى الرغم من أن هذا الاكتشاف ظل مغمورًا لفترة طويلة، إلا أن الأبحاث الحديثة أعادت له مكانته المستحقة في سجل الاكتشافات الطبية الكبرى. إن الدور الذي لعبه ابن النفيس في تصحيح المفاهيم الخاطئة السائدة آنذاك، ووضع أساس علمي راسخ لفهم الدورة الدموية، يجعل منه واحدًا من أعظم الأطباء في التاريخ الإنساني.

المراجع

1. ماكس ماير