سدنة الكعبة المشرفة عبر التاريخ

عنوان المقال: سدنة الكعبة المشرفة

مقدمة تاريخية عن الكعبة المشرفة ومكانتها

الكعبة المشرفة، قلب الحرم المكي، ومهوى أفئدة المسلمين، وبيت الله العتيق، تمثل المحور المركزي في العقيدة الإسلامية، فهي أول بيت وضع للناس لعبادة الله، كما جاء في قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 96]. ومنذ أن بنيت الكعبة على يد النبي إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، نشأ معها نظام ديني واجتماعي لتولي شؤونها، يعرف بالسدانة، وأصحابها يُعرفون بسدنة الكعبة أو حجّاب الكعبة. والسدانة هي تولي خدمة الكعبة وصيانتها ورعايتها وفتحها وإغلاقها والقيام بجميع ما يتصل بها من شؤون الطهارة والنظافة واستقبال كبار الزوار فيها وفتحها للحجاج عند دخولهم.

هذا النظام لم يكن حديث النشأة، بل ترجع جذوره إلى عصور ما قبل الإسلام، واستمر في ظل الإسلام بنظامٍ دقيق قائم على السُنة والتكريم الإلهي والنبوي، وظل يُورث في بيت معين من بيوتات مكة حتى يومنا هذا.

معنى السدانة لغويًا واصطلاحيًا

السدانة في اللغة مأخوذة من الفعل “سَدَن”، أي خدم البيت ورعاه. والسادن هو الخادم أو القائم على شؤون بيت العبادة، ويُقال: “سدن البيت” أي تولّى أمره وحفظه. أما في الاصطلاح، فالسدانة تعني الوظيفة الرسمية أو الدينية التي تشمل إدارة الكعبة المشرفة، وفتحها وإغلاقها، وتنظيفها وتطييبها، وتنظيم دخول زائريها، والقيام على شؤون الكسوة، والحفاظ على مفاتيحها.

السدانة في الجاهلية: قبل الإسلام

في عهد الجاهلية، كان أمر الكعبة محل اهتمام كبير بين قبائل العرب، وكانت السدانة من أهم الوظائف الدينية التي كانت تتنازع عليها القبائل الكبرى في مكة. وتعود أقدم سدانة معروفة تاريخيًا إلى قبيلة جرهم، التي سكنت مكة بعد عهد نبي الله إسماعيل، وقد تولاها جدهم عمرو بن الحارث الجرهمي، ثم تتابع السدنة في هذه القبيلة إلى أن زالت سيادتهم.

ثم انتقلت السدانة إلى بني خزاعة الذين أزاحوا جرهم عن حكم مكة، وظلت بيدهم فترة طويلة حتى جاء قصي بن كلاب، الجد الأعلى للنبي محمد ﷺ، فاستعاد السيادة على مكة بما فيها أمر السدانة.

وقد نظم قصي بن كلاب الأمور في مكة ونقل إدارة شؤون الكعبة وسدانتها إلى أبناءه، إلا أنه أعطاها لاحقًا إلى ابنه عبد الدار بن قصي، ومن ثم انتقلت بالوراثة في ذريته، حيث استمرت في هذا الفرع حتى مجيء الإسلام.

سدانة الكعبة في عهد الرسول ﷺ

عند فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة، وبعد أن طهّر النبي ﷺ الكعبة من الأصنام، طلب مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة، وكان من بني شيبة، وأحد أحفاد عبد الدار بن قصي، وقال له حينها: “يا عثمان، هات المفتاح”، ففتح له الكعبة، فدخلها رسول الله ﷺ وصلّى فيها ركعتين، ثم خرج وقال قولته الشهيرة التي كانت حجر الأساس لاستمرار سدانة الكعبة في بني شيبة:

“خذوها يا بني أبي طلحة خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم”.

وبهذا أقرّ رسول الله ﷺ السدانة في يد بني شيبة، وهي لا تزال فيهم حتى اليوم، ما جعلها سنة شرعية مستمرة بتوكيد نبوي لا يُنقض.

المهام الرسمية للسدانة بعد الإسلام

بعد تثبيت وظيفة السدانة في بني شيبة، اتسعت مهام السدانة لتشمل وظائف متعددة تتطلب الدقة والتنظيم، ومن أبرزها:

1. فتح الكعبة وإغلاقها: لا تُفتح الكعبة إلا من خلال السادن، وهو الذي يحمل المفتاح ويُشرف على الدخول إليها.

2. تنظيف الكعبة وتطييبها: تُغسل الكعبة من الداخل بماء زمزم، ويُعطّر جدرانها بأفخم أنواع الطيب والمسك والعنبر، ويكون ذلك مرتين في السنة.

3. الإشراف على كسوة الكعبة: حيث يُبدّل ثوب الكعبة في يوم عرفة كل عام، ويتابع السادن وصول الكسوة الجديدة وتنصيبها.

4. تنظيم زيارات الكعبة من الداخل: سواء كانت لشخصيات دينية أو سياسية أو من عامة المسلمين في المناسبات الرسمية.

5. حفظ المفتاح: وهو مفتاح الكعبة الشريفة، وله رمزية دينية وتاريخية عظيمة، لا يُسلم إلا للسادن في المناسبات المخصصة.

الرمزية الدينية والاجتماعية للسدانة

تمثل سدانة الكعبة رمزية دينية سامية، إذ إنها من أقدم الوظائف الدينية المستمرة في الإسلام. كما أن كونها في ذرية واحدة على مدى قرون يعكس بُعدًا اجتماعيًا يتعلق بالثقة والتكريم الإلهي والنبوي لهذه العائلة. ويُنظر إلى السادن باعتباره خادمًا لشعيرة عظيمة، تُقدَّر خدمته بقدر ما ترمز إليه الكعبة المشرفة من قدسية وعظمة.

بني شيبة: سدنة الكعبة عبر القرون

أسرة بني شيبة التي تحتفظ بمفتاح الكعبة اليوم تنحدر من عبد الدار بن قصي كما أشرنا، وقد تولى منهم رجال عدة السدانة منذ عهد النبي ﷺ وحتى العصور الإسلامية المتعاقبة من خلافة راشدة وأموية وعباسية وفاطمية وأيوبية وعثمانية ثم العهد السعودي.

وكان للسدنة من آل شيبة حضور دائم في جميع مراحل تاريخ مكة، وقد تولوا مهامهم في العهود المختلفة باحترام وتقدير، وكان لهم مكانة عند الخلفاء والسلاطين، الذين لم يتدخلوا في أمر السدانة ولم يسحبوا هذا الشرف منهم، احترامًا للوصية النبوية.

وفي العصر الحديث، تستمر السدانة في هذه الأسرة، وآخر من تولى هذا الشرف حتى كتابة هذه السطور هو الشيخ الدكتور صالح بن زين العابدين بن عبد الله الشيبي، الذي يُعد السادن الحالي للكعبة المشرفة.

الجدول التالي يوضح تسلسل الأسر والقبائل التي تولت السدانة عبر التاريخ:

مكانة المفتاح في التراث الإسلامي

لم يكن مفتاح الكعبة مجرد أداة معدنية، بل يحمل قيمة رمزية بالغة في الوجدان الإسلامي. وقد احتفظ به السدنة عبر العصور كما يُحفظ الكنز، وهو محفوظ في صندوق خاص، يُفتح عند الحاجة فقط. ويتم تسليمه من الأب إلى الابن في مراسم عائلية خاصة مصحوبة بالدعاء والتذكير بالأمانة.

وقد دون المؤرخون والمستشرقون الذين زاروا مكة تفاصيل عن شكل المفتاح، وغالبًا ما يكون مصنوعًا من الفضة أو الحديد المطلي بالذهب، وله طابع زخرفي مهيب، منقوش عليه آيات قرآنية أو عبارات توحيدية.

سدانة الكعبة في العصر الحديث

في ظل العهد السعودي، نالت الكعبة المشرفة اهتمامًا بالغًا على جميع الأصعدة، وجرى تنظيم عمل السدانة بدقة شديدة، ضمن إطار مؤسسي يراعي القِدم الديني للمهنة، مع تطويع الوسائل الحديثة في خدمتها. ويُشرف على أعمال تنظيف الكعبة وتطييبها اليوم فريق من الفنيين والعمال المتخصصين، ولكن تحت الإشراف المباشر للسادن الذي يُمثل رمزية الإرث والشرعية.

وقد شُهد للسدنة بالتقوى والالتزام والانضباط في أداء مهامهم، كما أن وجودهم في المحافل الدينية الكبرى، مثل مراسم استبدال الكسوة أو غسل الكعبة، يُمثل جزءًا لا يتجزأ من هذا الطقس الديني العظيم.

خاتمة تحليلية

سدانة الكعبة المشرفة ليست مجرد وظيفة دينية بل تمثل امتدادًا تاريخيًا لإرث نبوي موثّق، يجمع بين القدسية والتكريم والرمزية، فقد ربطها النبي ﷺ بوصية واضحة، وأصبحت سدانة الكعبة من معالم الثوابت الإسلامية. ومع مرور الزمن، ظلت أسرة بني شيبة رمزًا للاستمرارية في خدمة أطهر بقعة على وجه الأرض. ومع كل تغير في الزمان والمكان، تبقى هذه الوظيفة شاهدة على تعظيم المسلمين لبيت الله العتيق، وتبجيلهم للعهود والوصايا النبوية التي لم يُفرط فيها حتى في أحلك اللحظات.

المراجع:

1. السهيلي، الروض الأنف في شرح السيرة النبوية، دار إحياء التراث العربي.

2. ابن حجر العسقلاني، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، دار المعرفة.