مراحل صناعة القماش بالتفصيل

مراحل صنع القماش: رحلة معقدة من الألياف إلى النسيج

إن القماش يُعد من أقدم الابتكارات البشرية التي تطورت مع تطور الحضارات، بدءًا من استخدام الألياف النباتية والحيوانية الخام وصولًا إلى تقنيات التصنيع الحديثة القائمة على الألياف الاصطناعية والمعالجة الصناعية. يمثل القماش جزءًا أساسيًا من الحياة اليومية، ليس فقط في صناعة الملابس، بل أيضًا في الديكور المنزلي، والصناعة، والطب، والفضاء، وغير ذلك من الاستخدامات الحيوية.

يمر القماش عبر سلسلة من المراحل المعقدة تبدأ من اختيار الألياف وتنتهي بإنتاج نسيج نهائي قابل للاستخدام. كل مرحلة تتطلب تقنيات متقدمة وفهمًا دقيقًا لخواص الألياف والمواد المستخدمة. يتنوع القماش بحسب الخامة والنسيج والتشطيب، ما يعطيه صفات مميزة كالمتانة، والمرونة، والمظهر، والملمس.

في هذا المقال سيتم تناول المراحل الأساسية لصنع القماش، بدءًا من جمع الألياف، مرورًا بالغزل والنسيج، ثم الصباغة والتشطيب، مع شرح تفصيلي لكل خطوة والمواد والتقنيات المستخدمة فيها، مع الإشارة إلى الفروقات بين الأقمشة الطبيعية والصناعية.

أولًا: جمع الألياف الخام

1. الألياف الطبيعية

تنقسم الألياف الطبيعية إلى نوعين رئيسيين: الألياف النباتية والألياف الحيوانية.

أ. الألياف النباتية

تشمل القطن، الكتان، القنب، الجوت، والرامي. يتم استخراجها من أجزاء مختلفة من النبات:

• القطن: يُستخرج من غلاف بذور نبات القطن. يُعد من أكثر الألياف الطبيعية استخدامًا.

• الكتان: يُستخرج من ساق نبات الكتان ويُعرف بمتانته وملمسه الناعم.

• الجوت: يتم الحصول عليه من ساق نبات الجوت، ويستخدم في صناعة الأكياس والحبال والخيش.

• القنب: يشبه الجوت لكنه أكثر متانة، ويستخدم في الصناعات الثقيلة.

ب. الألياف الحيوانية

تشمل الصوف، الكشمير، الألبكة، والحرير.

• الصوف: يُحصل عليه من صوف الأغنام ويتميز بقدرته على العزل الحراري.

• الحرير: يُنتج من شرانق دودة القز، وهو ناعم ولامع بطبيعته ويُعد من أغلى الأقمشة.

• الكشمير: يُستخرج من ماعز الكشمير، وهو أكثر نعومة وخفة من الصوف.

2. الألياف الصناعية

تشمل الألياف المُصنعة من البوليمرات الطبيعية أو الاصطناعية، مثل:

• النايلون: ألياف صناعية صُنعت أول مرة في ثلاثينيات القرن العشرين، وتُستخدم في الملابس والمعدات الصناعية.

• البوليستر: من الألياف واسعة الاستخدام، تقاوم التجاعيد وتتميز بالمتانة.

• الرايون (الفيسكوز): ألياف شبه صناعية تُصنع من السليلوز، تشبه القطن والحرير.

• الأكريليك: بديل صناعي للصوف، يُستخدم في البطانيات والملابس الشتوية.

ثانيًا: التنظيف والمعالجة الأولية للألياف

قبل تحويل الألياف إلى خيوط، يجب تنظيفها ومعالجتها لإزالة الشوائب وتحسين خصائصها.

1. تنظيف الألياف الطبيعية

• القطن: يُفصل عن البذور باستخدام آلة الحلج، ثم يُنظف من الأوساخ والشوائب.

• الصوف: يُغسل لإزالة الشحوم (اللانولين)، ويُجفف، ثم يُمشط لفصل الألياف الطويلة.

• الكتان: يخضع لعملية “التعطين” حيث يُغمر في الماء لتليين الألياف وفصلها عن الساق.

2. معالجة الألياف الصناعية

تصنع الألياف الصناعية من خلال عمليات كيميائية متقدمة تتضمن إذابة المادة الخام ودفعها عبر ثقوب دقيقة لتشكيل خيوط، مثل عملية الغزل الجاف أو الرطب أو الذائب، بحسب نوع البوليمر المستخدم.

ثالثًا: الغزل

الغزل هو عملية تحويل الألياف إلى خيوط متماسكة. تنقسم هذه العملية إلى مراحل متعددة:

1. الكرد (Carding)

في هذه المرحلة، تُفكك الألياف وتُسرح باستخدام آلات خاصة لتصبح متوازية تقريبًا، مما يُسهل دمجها لاحقًا في خيوط.

2. السحب (Drawing)

تُسحب الألياف وتُطيل لتشكيل شريط طويل متجانس، مع دمج عدة أشرطة في شريط واحد لزيادة التماسك.

3. الغزل الفعلي (Spinning)

يُحوَّل الشريط إلى خيط رفيع عبر لفه على بكرات باستخدام آلات غزل متقدمة، تُحدد فيها السماكة والالتواء حسب نوع القماش المطلوب.

يوجد نوعان رئيسيان من الغزل:

• الغزل الحلقي (Ring Spinning): يعطي خيوطًا عالية الجودة، لكنه بطيء.

• الغزل المفتوح (Open-End Spinning): أسرع لكنه يُنتج خيوطًا أقل جودة.

رابعًا: النسيج

1. تقنيات النسيج الرئيسية

• النسيج (Weaving): يتم بإدخال خيوط اللحمة (الأفقية) بين خيوط السدى (العمودية) باستخدام النول.

• الحياكة (Knitting): يتم ربط الخيوط ببعضها لتكوين حلقات مترابطة، ويُستخدم في إنتاج الملابس المرنة مثل التيشيرتات والجوارب.

2. أنواع النسيج

خامسًا: الصباغة والتشطيب

بعد نسج القماش، يُخضع لعمليات صباغة وتشطيب تضفي عليه المظهر والوظائف المطلوبة.

1. الصباغة (Dyeing)

تشمل عمليات غمر القماش أو الخيوط في محاليل ملونة، وتُجرى بعدة طرق:

• صباغة الألياف: تُصبغ الألياف قبل الغزل.

• صباغة الخيوط: تُصبغ الخيوط بعد الغزل وقبل النسيج.

• صباغة القماش: تُصبغ القطعة المنسوجة كاملة.

تُستخدم أصباغ طبيعية (من النباتات والحشرات) أو صناعية (كيميائية) حسب الرغبة والاستخدام.

2. الطباعة (Printing)

يُطبع القماش بنقوش وزخارف باستخدام تقنيات متعددة:

• الطباعة بالدوار (Rotary Printing): تُستخدم أسطوانات للطباعة المتكررة.

• الطباعة الرقمية: تطبع التصاميم مباشرةً على القماش.

• الطباعة الحرارية: تُنقل الألوان بالحرارة من ورق خاص إلى النسيج.

3. التشطيب (Finishing)

تهدف هذه المرحلة إلى تحسين جودة القماش وملمسه وجعله مقاومًا للانكماش أو مقاومًا للماء أو التجاعيد.

تشمل بعض العمليات:

• الكوي بالبخار: لجعل القماش مسطحًا ولامعًا.

• المعالجة الكيميائية: مثل مقاومة البقع أو العفن.

• التقسية أو التنعيم: بحسب نوع الاستخدام المراد.

سادسًا: الفحص والجودة والتغليف

بعد الانتهاء من تصنيع القماش، يُخضع لعملية فحص دقيقة لضمان خلوه من العيوب مثل الثقوب أو تغير اللون. تُستخدم أنظمة آلية وكاميرات رقمية لفحص كل متر من القماش.

يُلف القماش في بكرات كبيرة أو يُطوى في حزم، ثم يُغلف ويوزع على مصانع الملابس أو التصدير أو البيع بالتجزئة.

سابعًا: الاعتبارات البيئية والاستدامة

في العصر الحديث، أصبحت الاستدامة والحد من الأثر البيئي في صناعة القماش من الأمور الأساسية. فالصناعة النسيجية تستهلك كميات هائلة من المياه والطاقة، وتنتج نفايات كيميائية خطيرة. لهذا، ظهرت عدة توجهات جديدة:

• إعادة تدوير الأقمشة: استخدام بقايا الأقمشة أو الملابس القديمة في إنتاج أقمشة جديدة.

• الأقمشة العضوية: مثل القطن العضوي الذي يُزرع دون مبيدات.

• الصباغة البيئية: استخدام أصباغ مائية أو نباتية لتقليل الضرر البيئي.

• المعالجة بالموجات فوق الصوتية أو البلازما: لتقليل الحاجة للمواد الكيميائية.

خاتمة: تطور دائم في صناعة القماش

يمر القماش برحلة طويلة تبدأ من الألياف الخام وتنتهي بنسيج مُعد للاستعمال، وهي رحلة تجمع بين المهارات التقليدية والتكنولوجيا الحديثة. وبينما لا تزال الأقمشة الطبيعية محافظة على شعبيتها، فإن الأقمشة الصناعية تواصل التوسع والتطور، خاصة في المجالات التقنية والطبية والعسكرية. إن فهم هذه المراحل يُعد ضروريًا ليس فقط لمصنّعي النسيج، بل لكل من يعمل في مجال الموضة، والديكور، والصناعة، وحتى البيئة.

المراجع:

1. Kadolph, Sara J., Textiles, 11th ed., Pearson Education, 2010.

2. Cook, Gordon, Handbook of Textile Fibres: Natural Fibres, Woodhead Publishing, 1984.