أسباب النسيان المتكرر

أسباب كثرة النسيان

النسيان هو ظاهرة نفسية وبيولوجية طبيعية تحدث لجميع البشر بدرجات متفاوتة، ويتجلى في فقدان مؤقت أو دائم للمعلومات والخبرات التي تم اكتسابها سابقاً. في حين أن بعض حالات النسيان تعتبر جزءاً طبيعياً من وظيفة الذاكرة، إلا أن تكرار هذه الحالات بشكل مفرط قد يشير إلى وجود خلل وظيفي في الجهاز العصبي أو إلى تأثر الذاكرة بعدة عوامل جسدية ونفسية وبيئية. هذا المقال يهدف إلى تحليل الأسباب المتعددة التي تؤدي إلى كثرة النسيان، من خلال منظور علمي دقيق يجمع بين الطب النفسي، وعلم الأعصاب، والتغذية، والأنثروبولوجيا السلوكية.

أولاً: الأسباب العصبية والدماغية

1. الشيخوخة والتغيرات الفسيولوجية

تُعد الشيخوخة من أبرز العوامل المؤثرة على الذاكرة، إذ يحدث تراجع تدريجي في أداء الخلايا العصبية داخل الحُصين (Hippocampus)، وهو الجزء المسؤول عن تخزين واسترجاع الذكريات. تتضاءل قدرة الدماغ على تكوين نقاط تشابك عصبي جديدة، مما يقلل من كفاءة معالجة المعلومات والاحتفاظ بها.

2. الأمراض العصبية التنكسية

أمراض مثل الزهايمر، الخرف الوعائي، وباركنسون تؤثر بشكل مباشر على خلايا الدماغ والدوائر العصبية المرتبطة بالذاكرة قصيرة وطويلة المدى. في هذه الحالات، لا يكون النسيان مجرد عرض، بل هو مكون أساسي من الصورة السريرية للمرض، ويتفاقم مع مرور الوقت.

3. إصابات الرأس والصدمات الدماغية

التعرض لإصابات في الدماغ، سواء كانت رضوضاً ناتجة عن حوادث أو ارتجاجات خفيفة، قد يؤدي إلى تلف الأنسجة العصبية وبالتالي تراجع في القدرات المعرفية، خصوصاً الذاكرة. كما أن الإصابات التي تؤثر على الفص الصدغي أو الأمامي تكون أكثر ارتباطاً بمظاهر النسيان الحادة.

ثانياً: الأسباب النفسية والعاطفية

1. التوتر المزمن والقلق

يُعد التوتر المزمن من العوامل النفسية التي تؤدي إلى اضطراب في عمل محور HPA (Hypothalamic-Pituitary-Adrenal Axis)، والذي يفرز كميات زائدة من الكورتيزول. هذا الهرمون يؤدي إلى تقليص حجم الحُصين مع الوقت، مما يضعف عملية تخزين الذكريات واستدعائها.

2. الاكتئاب

يعاني المصابون بالاكتئاب من اضطرابات في التركيز والانتباه، مما يؤثر سلباً على ترميز المعلومات الجديدة داخل الذاكرة. بالإضافة إلى ذلك، فإن قلة الحافز والتراجع في النشاط الذهني يؤثران سلباً على الذاكرة العاملة والذاكرة طويلة المدى.

3. الصدمات النفسية واضطرابات ما بعد الصدمة

الذكريات الصادمة عادة ما تُخزن في الدماغ بطرق مختلفة عن الذكريات العادية، مما يؤدي إما إلى فرط التذكر (flashbacks) أو إلى فقدان جزئي أو كلي لبعض الأحداث المرتبطة بالحادثة، وتُعرف هذه الحالة بفقدان الذاكرة التفارقي (Dissociative Amnesia).

ثالثاً: العوامل البيئية والسلوكية

1. قلة النوم واضطراباته

النوم ضروري لترسيخ الذكريات التي تم تكوينها خلال اليوم. أثناء مرحلة النوم العميق، تحدث عمليات إعادة تنشيط الذاكرة داخل الحُصين ونقلها إلى القشرة المخية. أي خلل في دورة النوم، سواء بسبب الأرق أو اضطرابات التنفس أثناء النوم، يؤثر على جودة الذاكرة.

2. التشتت المعلوماتي والإفراط في استخدام التكنولوجيا

تشير الدراسات الحديثة إلى أن الاعتماد الزائد على الأجهزة الذكية ومحركات البحث قد يؤدي إلى ما يُعرف بـ”النسيان الرقمي” أو “الكسل المعرفي”، حيث يضعف الدماغ قدرته على تخزين المعلومات بسبب سهولة الوصول إليها رقمياً.

3. تعدد المهام

القيام بعدة مهام في الوقت نفسه يقلل من القدرة على التركيز والانتباه، مما يعيق عملية التشفير في الذاكرة. العقل البشري لا يمكنه فعلياً المعالجة المتزامنة لمهام متعددة، بل يقوم بالتحول بينها بسرعة، مما يسبب خللاً في ترسيخ المعلومات.

رابعاً: العوامل الغذائية والصحية العامة

1. نقص الفيتامينات والمعادن

الفيتامينات الأساسية مثل فيتامين B12، وفيتامين D، وحمض الفوليك تلعب دوراً محورياً في دعم الوظائف العصبية. نقص هذه الفيتامينات يؤدي إلى تلف الأغلفة الميالينية للأعصاب وإعاقة التوصيل العصبي.

2. اضطرابات الغدة الدرقية

قصور نشاط الغدة الدرقية يبطئ من عمليات الأيض في الجسم، مما يؤثر سلباً على وظائف الدماغ، ويظهر على شكل بطء في التفكير وصعوبة في التركيز والنسيان.

3. الجفاف وسوء التغذية

يؤدي فقدان السوائل إلى انخفاض تدفق الدم إلى الدماغ، مما يقلل من كمية الأوكسجين والمغذيات اللازمة لوظيفة الذاكرة. كما أن النقص الحاد في السعرات الحرارية أو الحميات القاسية قد يؤثر على توازن النواقل العصبية.

خامساً: الأدوية والمواد المؤثرة على العقل

1. الأدوية ذات التأثير المركزي

بعض الأدوية مثل مضادات الهيستامين، المهدئات، مضادات الاكتئاب، وأدوية الصرع قد تؤدي إلى تأثيرات جانبية تتعلق بضعف التركيز والنسيان، بسبب تأثيرها على الناقلات العصبية كالسيروتونين والدوبامين.

2. الكحول والمخدرات

يسبب تعاطي الكحول المزمن تقلصاً في حجم الحُصين وضعفاً في القدرات الإدراكية. كذلك، فإن المواد المخدرة مثل القنب والكوكايين تؤثر على الذاكرة قصيرة المدى، وتؤدي إلى تغيرات دائمة في الدماغ مع الاستخدام المطول.

3. التسمم بالمعادن الثقيلة

التعرض للزئبق أو الرصاص لفترات طويلة يؤدي إلى اضطراب في الخلايا العصبية، حيث تعمل هذه المعادن على تثبيط الإنزيمات الضرورية للنقل العصبي، وبالتالي إضعاف الذاكرة.

سادساً: العوامل الوراثية والوراثة الجينية

1. الاستعداد الوراثي

تلعب الوراثة دوراً في تحديد كفاءة الذاكرة وقابليتها للتدهور. مثلاً، الأشخاص الذين لديهم أقارب مصابين بمرض الزهايمر يكونون أكثر عرضة للإصابة به نتيجة لطفرات جينية في جين ApoE.

2. الطفرات الجينية المرتبطة بوظائف الدماغ

بعض الطفرات تؤثر على مستقبلات النواقل العصبية أو على بنية البروتينات اللازمة لنقل الإشارات العصبية، مما يؤثر بشكل غير مباشر على قدرة الدماغ في ترميز واسترجاع الذكريات.

سابعاً: العوامل الثقافية والتعليمية

1. قلة التحفيز الذهني

البيئات التي تفتقر إلى الأنشطة الفكرية، مثل القراءة أو الحوار أو حل الألغاز، تؤدي إلى تراجع في الكفاءة الإدراكية مع الوقت. الاستخدام غير الكافي للذاكرة يجعلها أقل فعالية في أداء وظائفها.

2. الأمية المعرفية وضعف التعليم المبكر

أثبتت الدراسات أن الأفراد الذين تلقوا تعليماً متقدماً في الطفولة، يكون لديهم قدرة أكبر على الاحتفاظ بالذاكرة في مراحل الشيخوخة. أما نقص التعرض للمعرفة، فيضعف التكوين البنيوي للروابط العصبية المرتبطة بالذاكرة.

جدول العوامل المؤثرة في كثرة النسيان

المصادر والمراجع

• Smith, E. E., & Kosslyn, S. M. (2007). Cognitive Psychology: Mind and Brain. Pearson Education.

• National Institute on Aging (NIA). (2022). “Forgetfulness: Knowing When to Ask for Help.” U.S. Department of Health & Human Services.