أسباب الغفلة وطرق العلاج

أسباب الغفلة

تُعد الغفلة من أخطر الأمراض التي تصيب القلوب والعقول، لأنها تمثّل حالة من الانصراف عن الحق، والابتعاد عن الوعي الحقيقي بالغاية من الوجود. الغفلة ليست مجرد نسيان عابر أو إهمال مؤقت، بل هي نمط حياة قد يستشري في الإنسان حتى يفقد صلته بالحقائق الكبرى، ويعيش في دوامة من الغرور والهوى والانشغال بزينة الحياة الدنيا. وقد تحدث عنها القرآن الكريم والسنّة النبوية بوصفها من أخطر الآفات التي تقود إلى الضلال والهلاك. والوعي بأسباب الغفلة يُعد الخطوة الأولى في معالجتها والنجاة منها.

الغفلة في القرآن والسنة

الغفلة وردت في مواضع عديدة في القرآن الكريم، فالله سبحانه وتعالى قال: {اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون} [الأنبياء: 1]، وقال تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها… أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} [الأعراف: 179]. فالغفلة هنا قرينة بالضلال والإعراض عن الحق.

كما بيَّن النبي محمد ﷺ خطورة الغفلة، وارتباطها بالقلب، فقال: “لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي” [رواه الترمذي]. والغفلة، بهذا الفهم، ليست فقط غياب الذكر، بل قسوة في القلب تُفضي إلى الابتعاد عن الله.

أولًا: الانغماس في الدنيا وزينتها

من أبرز أسباب الغفلة الانشغال المفرط بملذات الدنيا وشهواتها. فالإنسان الذي يجعل اهتمامه الأول متعلّقًا بجمع المال، والركض وراء المناصب، والانغماس في اللهو، يتكوّن لديه حجاب يحول بينه وبين إدراك الحقائق الوجودية الكبرى.

وقد قال الله تعالى: {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون} [الحجر: 3]، وهي آية تختصر حالة الغافلين الذين لا يرون في الحياة إلا فرصًا للتمتع المؤقت، بينما يغفلون عن المصير النهائي والحساب.

وتزداد الغفلة حين تتحوّل الدنيا إلى غاية في ذاتها، وتُنسى كونها وسيلة للابتلاء والعمل الصالح، قال تعالى: {إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد…} [الحديد: 20]، فالتكاثر والتفاخر يؤديان إلى صرف القلب عن التذكرة.

ثانيًا: اتباع الهوى

الهوى من أعظم ما يُعمّق الغفلة في النفس، فالذي يتبع شهواته ويقدّم رغباته على أوامر ربه يعيش في حالة من العمى الروحي. يقول الله تعالى: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه…} [الجاثية: 23]، فالهوى يصرف الإنسان عن النظر بعين البصيرة، ويجعله عبدًا لنزواته، لا يرى إلا ما يشتهيه.

اتّباع الهوى يُميت القلب تدريجيًا، ويقطع الصلة بين العبد وربه، ويغلف الفؤاد بحجب كثيفة من الغفلة لا تكشفها إلا التوبة أو صدمة كبرى.

ثالثًا: قلة الذكر والغفلة عن العبادة

ذكر الله حياة للقلوب، وكلما انصرف الإنسان عن الذكر، ازداد تغلغل الغفلة في قلبه. يقول الله تعالى: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكًا…} [طه: 124]، أي أن الغفلة عن الذكر لا تقود فقط إلى ضياع الآخرة، بل تجلب الضيق والشقاء في الدنيا أيضًا.

والعبادات – من صلاة وصيام وقراءة قرآن – هي وسائل لتجديد الصلة بالله، وكل تقصير فيها يُعزز من الغفلة. وقد جاء في الحديث: “مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه، مثل الحي والميت” [رواه البخاري].

رابعًا: صحبة الغافلين

المرء على دين خليله، والصحبة تؤثر تأثيرًا بالغًا في حال القلب. من يسير مع الغافلين، ويتحدث بلغتهم، ويتأثر بمنهجهم، يصبح مثلهم دون أن يشعر. قال تعالى: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه… ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطًا} [الكهف: 28].

فصحبة الذاكرين تُعين على التذكير، وصحبة الغافلين تُفضي إلى مزيد من الغفلة. ويكفي أن نعلم أن الصحبة السيئة قد تُضيع إيمان المرء وتدخله في طرق المهالك.

خامسًا: كثرة الذنوب والمعاصي

المعصية تترك أثرًا ظاهريًا وباطنيًا، وكلما زادت المعاصي، ازداد تغليف القلب بالران. قال تعالى: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} [المطففين: 14]. والرَّين هو الغطاء الذي يغشى القلب فيمنعه من إدراك الحق.

الغافل لا يشعر بتأنيب الضمير، لأنه قد أطفأ ضوء البصيرة في داخله بكثرة الذنوب، فأصبح لا يرى في الحرام حرامًا، ولا في الباطل باطلًا. وهذا من أشد أنواع الغفلة، لأنه يكون بعد علم وإدراك.

سادسًا: كثرة الانشغال بالتفاهات والمُلهيات

المجتمعات المعاصرة تزداد فيها وسائل اللهو والمُلهيات، من شاشات وتطبيقات ومواقع تستهلك وقت الإنسان ووعيه، وتسرق انتباهه دون أن يشعر. وقد أصبحت هذه الوسائل تصنع حالة عامة من “الغفلة الرقمية”، تجعل الإنسان حاضرًا بجسده، غائبًا بروحه وعقله.

ومع التكرار المستمر لهذا النمط من الاستهلاك العقلي، يفقد الإنسان القدرة على التأمل والتفكر، ويضعف فيه الحافز للعبادة أو لمحاسبة النفس.

سابعًا: طول الأمل ونسيان الموت

الأمل الممتد، والرغبة في البقاء الطويل في الدنيا، من أسباب الغفلة العميقة. فقد قال النبي ﷺ: “قلَّ ما يَشيخُ عبدٌ ويشبُّ معه اثنان: الحِرصُ على المالِ، وطولُ الأملِ” [رواه البخاري].

طول الأمل يجعل الإنسان يُسوّف التوبة، ويؤجل العودة إلى الله، ويعتقد أن الموت بعيد رغم أنه أقرب من شراك نعله. ولذلك فإن الإكثار من تذكُّر الموت علاج فعّال لحالة الغفلة، قال النبي ﷺ: “أكثروا من ذكر هادم اللذات” [رواه الترمذي].

ثامنًا: ضعف العلم الشرعي

العلم هو النور الذي يهدي القلب، والجهل يُورث الغفلة. فكلما قلَّ علم الإنسان بربه، وبمعاني القرآن، وبسنة نبيه، ازداد بعدًا عن الوعي بالحق.

قال الله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر: 28]، فالعلم الحق يُولّد الخشية، ومن لا يخشى الله يكون في حالة من الغفلة المستمرة.

كما أن العلم يُعين على فهم الواقع وتفسيره تفسيرًا إيمانيًا، بينما الجهل يُفضي إلى الغفلة عن الحكمة الإلهية فيما يجري من حوادث وأقدار.

تاسعًا: الابتعاد عن المساجد ومجالس الذكر

المساجد ومجالس العلم هي محاضن الإيمان، وهي محطات لتجديد الوعي واسترجاع البصيرة. ومن يبتعد عنها، ويعيش في عزلة عن مصادر النور، يغرق تدريجيًا في ظلمات الغفلة.

قال رسول الله ﷺ: “ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده” [رواه مسلم].

فالابتعاد عن هذه المجالس يحرم الإنسان من هذه الفيوض الربانية، ويجعل قلبه جافًا خامدًا.

عاشرًا: عدم محاسبة النفس

النفوس إذا تُركت دون مراقبة ومحاسبة، تسير بطبيعتها إلى الغفلة. لذلك حثَّ السلف على محاسبة النفس، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوها قبل أن تُوزنوا”.

فالمحاسبة توقظ الضمير، وتجدد العهد مع الله، وتمنع تراكم الغفلات الصغيرة حتى لا تتحول إلى غفلة كبرى مميتة.

جدول يوضح أبرز أسباب الغفلة وتأثيراتها:

المصادر:

1. ابن القيم الجوزية – مدارج السالكين

2. الإمام الغزالي – إحياء علوم الدين