أسباب الجفاف الثقافي عند الشباب

عنوان المقال: أزمة الجفاف الثقافي لدى الشباب

في خضم التحولات المتسارعة التي يشهدها العالم اليوم على مختلف الأصعدة، يواجه الواقع الثقافي لدى شريحة كبيرة من الشباب العربي حالة من الجفاف الملحوظ، ليس فقط في انكماش الاهتمام بالمعرفة والقراءة والفكر، بل أيضاً في ضمور الحس الجمالي، وتراجع الارتباط بالإرث الحضاري والقيمي الذي شكّل عبر القرون ركيزة الهوية الثقافية للأمة. هذا الجفاف لا يمكن اختزاله في ظواهر سطحية كقلة القراءة أو ضعف التفاعل مع الفنون، بل هو تعبير مركب عن أزمة أعمق، تتداخل فيها العوامل الاجتماعية والتكنولوجية والتعليمية والاقتصادية، لتصوغ ملامح جيل متوتر بين هوية ماضية وضغوط مستقبلية.

أولاً: تشخيص الظاهرة الثقافية لدى الشباب

تبدو مظاهر الجفاف الثقافي واضحة في عزوف نسبة كبيرة من الشباب عن القراءة الجادة، سواء كانت في الأدب أو الفلسفة أو العلوم الإنسانية، مقابل ميل متزايد نحو الاستهلاك الترفيهي السريع للمحتوى الرقمي. فالمحتوى المرئي القصير والمثير الذي تنتجه منصات التواصل الاجتماعي بات يُفضَّل على التفاعل مع كتاب أو محاضرة فكرية معمّقة. وتراجعت معدلات اقتناء الكتب وزيارة المعارض الثقافية والمشاركة في الأنشطة الفكرية العامة، إلى مستويات مقلقة، في وقت تتنامى فيه ثقافة الاستعراض والسطحية.

ثانياً: الخلفيات البنيوية للجفاف الثقافي

1. ضعف منظومة التعليم:

النظام التعليمي السائد في العديد من الدول العربية لا يرسخ الثقافة بمعناها الإنساني العميق، بل يكرّس التلقين والحفظ، ويغيب عنه التفاعل النقدي والفلسفي مع المعرفة. وقد أدى ذلك إلى انعدام التذوق الثقافي، وقصور المهارات الفكرية، وغياب الشغف بالمعرفة الحقيقية.

2. هيمنة الإعلام الترفيهي:

تشكل وسائل الإعلام، وخاصة الحديثة منها، مصدراً مركزياً لتشكيل الوعي الثقافي لدى الشباب. لكن هذه الوسائل، بدل أن تساهم في إثراء الفكر والذوق، باتت تُنتج محتوى استهلاكياً سطحياً يروّج لقيم الانبهار والفراغ والنجومية الزائفة، بعيداً عن القضايا الفكرية الكبرى.

3. تراجع دور الأسرة والمؤسسات الثقافية:

الأسرة التي كانت نواة نقل القيم والثقافة باتت في كثير من الأحيان غائبة أو منشغلة بأولويات مادية. أما المؤسسات الثقافية من مكتبات ودور نشر ونوادي أدبية، فقد تراجعت قدرتها على الجذب والتأثير، وأصبحت نماذج تقليدية لا تتماشى مع الوسائط الجديدة التي يستهلكها الشباب.

4. القطيعة مع التراث والهوية:

يعاني الشباب من فجوة معرفية وثقافية بينهم وبين تراثهم الحضاري، وذلك نتيجة الخطابات الرسمية الجامدة التي تقدمه بصورة غير جذابة، بالإضافة إلى النظرة النفعية التي تسود نظرتهم للمعرفة. أدى هذا إلى تآكل الهوية الثقافية وانجذاب إلى ثقافات مستوردة، غالباً ما تكون استهلاكية لا تحمل عمقاً حضارياً.

5. أثر التكنولوجيا والاستهلاك الرقمي:

الانتشار الواسع للأجهزة الذكية وتطبيقات التواصل الاجتماعي خلق بيئة تعتمد على السرعة والتفاعل اللحظي، ما أدى إلى تآكل زمن التركيز العميق لدى الشباب. وقد أثبتت دراسات حديثة أن الاستخدام المفرط لهذه الأدوات يضعف قدرة الدماغ على معالجة المعرفة التحليلية والنقدية.

ثالثاً: النتائج الكارثية للجفاف الثقافي

إن استمرار هذا الجفاف لا يؤدي فقط إلى ضمور الحياة الثقافية، بل يُنتج تباعاً مجموعة من الإشكالات الاجتماعية والسلوكية، حيث تتلاشى القدوة الفكرية، ويتصاعد الشعور بالفراغ، وينتشر العنف الرمزي واللفظي على المنصات الرقمية، ويضعف الإبداع الفني والأدبي، وتتشوه صورة الإنسان المتكامل الذي كان يتغذى على الفكر والفن والجمال. ومن منظور استراتيجي، فإن هذه الحالة تؤدي إلى هشاشة الوعي العام، وسهولة التلاعب بالعقول، وغياب القدرة على التفكير النقدي، وهو ما يهدد مستقبل المشاركة المدنية والسياسية الواعية.

رابعاً: الفروقات الطبقية في المشهد الثقافي

الجفاف الثقافي لا ينتشر بشكل متساوٍ بين جميع فئات الشباب. فهناك تمايز واضح بين الفئات الميسورة التي تملك أدوات الوصول إلى الثقافة (من كتب، وإنترنت سريع، وفرص تعليم راقٍ) وبين الفئات المحرومة التي لا تجد حتى القدرة على التفرغ للتفكير الثقافي بسبب الانشغال اليومي بمواجهة ظروف العيش. كما أن الشباب في العواصم والمدن الكبرى تختلف تجاربهم عن أولئك في الأطراف والمناطق الريفية، حيث يقل التفاعل الثقافي وتضعف البنية التحتية للمؤسسات الثقافية.

خامساً: سوسيولوجيا اللامبالاة الثقافية

في تحليل أعمق، يمكن فهم الجفاف الثقافي كنتاج لمجتمع يعيد إنتاج نماذج النجاح بناءً على مقاييس مادية واستهلاكية، حيث يُقاس الفرد بمدى ثرائه أو شهرته، لا بمدى عمقه المعرفي أو رؤيته الفكرية. من هنا تتكون في وعي الشباب نزعة لامبالاة تجاه الثقافة، لأنها لا تُكافأ اجتماعياً أو اقتصادياً. وفي هذا السياق، يصبح الشاب المثقف شاذاً في محيطه، يُنظر إليه على أنه غير واقعي أو “منفصل عن السوق”.

سادساً: مقترحات للمعالجة وبناء ثقافة شبابية جديدة

رغم الصورة القاتمة، فإن مواجهة هذه الأزمة ليست مستحيلة. بل تتطلب نهجاً شمولياً يعيد الاعتبار للثقافة كضرورة اجتماعية وسياسية وتنموية. وفيما يلي بعض المحاور الأساسية لتجاوز الجفاف الثقافي:

سابعاً: نحو استعادة الحيوية الثقافية

إن بناء جيل من الشباب العربي المتصل بهويته، والمنفتح على العالم، يبدأ من إعادة الاعتبار إلى الثقافة بوصفها مكوناً عضوياً في الكينونة الإنسانية، وليس مجرد ترف نخبوي. يجب أن يشعر الشاب أن المعرفة تمنحه قيمة، وأن القراءة تمنحه قوة، وأن الفكر يمنحه حرية داخلية لا توفرها الأدوات التقنية. ولكي يتحقق هذا، لا بد من مراجعة شاملة لأساليب التلقين، والخطاب الإعلامي، وأنماط الاستهلاك الثقافي السائدة.

وختاماً، فإن الخروج من مأزق الجفاف الثقافي لا يتحقق بمجرد النصح أو التنديد، بل عبر مشروع نهضوي طويل المدى، يشارك فيه الجميع: من مؤسسات الدولة، إلى الأسرة، إلى الإعلام، إلى المثقف، إلى الشاب ذاته. فالنهضة الثقافية ليست قراراً يُتخذ، بل فعل يُبنى، ومسار يُرعى، وروح تُبعث في الوجدان العام.

المصادر:

1. الجابري، محمد عابد. تكوين العقل العربي. مركز دراسات الوحدة العربية.

2. تقرير اليونسكو العالمي حول الثقافة والتنمية (Global Report: Culture & Development – UNESCO, 2022).