أساليب الأمر في سورة لقمان

أساليب الأمر في سورة لقمان

تُعدّ سورة لقمان من السور المكية التي تمتاز بأسلوبها التربوي العميق وبلاغتها البيانية المؤثرة، حيث تتضمن مجموعة من الوصايا الحكيمة التي تُنسب إلى لقمان الحكيم لابنه، والتي جاءت في سياق محكم يجمع بين الأسلوب الوعظي والإرشادي بأسلوب الأمر والنهي، ليكوّن نموذجًا تربويًا أخلاقيًا متكاملًا. ويُعتبر أسلوب الأمر من أبرز الأساليب البلاغية المستخدمة في هذه السورة، حيث ورد في إطار توجيهي يغلب عليه الطابع الأخلاقي والديني، معتمدًا على التكرار، والترغيب، والتمكين من الفهم العميق لقيم العقيدة والتقوى والسلوك القويم.

يهدف هذا المقال إلى تحليل أساليب الأمر في سورة لقمان تحليلًا بلاغيًا وتربويًا، مع رصد صيغ الأمر ومقاصدها، ودلالاتها التربوية والسلوكية، ودورها في بناء شخصية المؤمن، إضافة إلى توظيفها ضمن البنية السردية للسورة.

أولًا: نظرة عامة على أسلوب الأمر في اللغة العربية

في اللغة العربية، يُعرّف الأمر بأنه طلب الفعل على وجه الاستعلاء والإلزام، وله صيغ متعددة، أهمها:

1. الفعل الأمر الصريح: مثل: “أقم”، “اصبر”، “قل”.

2. الفعل المضارع المقرون بـ”لام الأمر”: مثل: “ولْينظر”، “ولْيعمل”.

3. اسم فعل الأمر: مثل “صه”، “حيّ”.

4. المصدر النائب عن فعله: كقولك “نصرةً للمظلوم”.

5. الطلب باستخدام الجملة الخبرية المقصود بها الأمر (أقل شيوعًا في القرآن).

تُستخدم هذه الصيغ في القرآن الكريم بشكلٍ بليغ يتجاوز المعنى النحوي ليشمل الإقناع الوجداني والتأثير الروحي والتربوي.

ثانيًا: السياق العام لسورة لقمان

سورة لقمان من السور التي تحمل رسالة تعليمية وتربوية بليغة، تتناول العقيدة، وتؤسس لقيم الحكمة، وتعرض نماذج سلوكية ينبغي على الإنسان التحلي بها. وتتميّز السورة بأسلوبها المتدرج في الخطاب، بدءًا من تأكيد صفات المؤمنين، ثم الحديث عن لقمان الحكيم ووصاياه لابنه، إلى نهاية السورة حيث تركز على قدرة الله ووحدانيته، ومعرفة الغيب، والحساب.

في هذا السياق، جاءت أساليب الأمر لتشكّل أداة مركزية في البناء الخطابي والتربوي للسورة.

ثالثًا: مواضع أساليب الأمر في سورة لقمان

يمكن رصد مجموعة من الأوامر المباشرة التي وردت في السورة، سواء كانت من الله تعالى لعباده، أو من لقمان الحكيم لابنه. وتتنوع هذه الأوامر بين أوامر عقائدية، وأوامر سلوكية، وأوامر شعائرية. وفيما يلي أبرز تلك المواضع:

1. “أقِمِ الصلاة” (الآية 17)

﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾

أمر مباشر بالصلاة، يُستخدم فيه فعل الأمر الصريح “أقِم”، وهو أمر ديني تعبدي ذو دلالة روحية وتنظيمية في حياة المؤمن. الصلاة هنا ليست مجرّد فعل بل هي ركن يُراد من الإنسان الالتزام به وإقامته على وجه الدوام والإتقان.

2. “وأمُر بالمعروف وانهَ عن المنكر” (الآية 17)

﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾

صيغة الأمر “أمر” و”انه” تفيدان التكليف الاجتماعي، وترسيخ مبدأ الرقابة المجتمعية الهادفة إلى الإصلاح. تأتي هذه الأوامر في سياق وصايا لقمان، مما يدل على اهتمامه بنقل مفهوم المسؤولية الأخلاقية والاجتماعية إلى الجيل التالي.

3. “واصبر على ما أصابك” (الآية 17)

﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ﴾

هنا فعل أمر صريح يُعبر عن فضيلة الصبر كخلق عظيم يجب التمسك به في وجه الابتلاءات. هذا النوع من الأوامر ليس فقط توجيهًا، بل هو غرس لقيمة أساسية في بناء الشخصية الإيمانية المتزنة.

4. “ولا تُصعّر خدك للناس” (الآية 18)

﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ﴾

على الرغم من أن العبارة تبدأ بـ”لا”، إلا أنها تمثل أمرًا سلبيًا، أي نهيًا عن سلوك متكبر أو متعالٍ. يُوظف هذا الأسلوب النهي لتقويم السلوك الاجتماعي وتجنب مظاهر الكبر والتجبر.

5. “ولا تمشِ في الأرض مرحًا” (الآية 18)

﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا﴾

هذا نهيٌ عن التفاخر والغرور، يُقابله أمرٌ ضمني بالتواضع والسير بسكينة. أسلوب النهي هنا يخدم غرضًا أخلاقيًا كبيرًا في التربية.

6. “واقصد في مشيك واغضض من صوتك” (الآية 19)

﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ﴾

أمران مباشران يعالجان السلوك الخارجي للإنسان، من طريقة مشيه إلى طريقة حديثه، دلالة على أن السلوك الظاهري يعكس القيم الباطنية. استخدام الأفعال “اقصد” و”اغضض” يبيّن أن الاتزان والحياء من السمات التي ينبغي أن يتحلى بها المسلم.

رابعًا: الجدول التحليلي لأساليب الأمر في السورة

خامسًا: وظائف أسلوب الأمر في سورة لقمان

1. التوجيه العقائدي

تبدأ وصايا لقمان بالأمر بتوحيد الله والنهي عن الشرك ﴿يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ﴾، مما يجعل العقيدة هي الأساس الذي يُبنى عليه كل ما بعده من أوامر. يتضمن هذا توجيهًا مباشرًا لترسيخ عقيدة التوحيد.

2. التهذيب السلوكي

الأوامر التي تعالج الكبر، والمرح في المشي، ورفع الصوت، تهدف إلى تهذيب النفس وضبط السلوك الظاهري بما يعكس الداخل المتزن المؤمن.

3. الارتقاء الأخلاقي

الوصايا التي تأمر بالصبر، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، تسهم في بناء منظومة أخلاقية متكاملة تجعل الإنسان جزءًا فاعلًا في المجتمع ومصدرًا للإصلاح.

4. الترابط الأسري والتربوي

ورود الأوامر في سياق الحديث بين لقمان وابنه يضفي عليها بعدًا تربويًا خاصًا، يُظهر أهمية الحوار العائلي القائم على الحكمة والإرشاد، ويقدم نموذجًا للآباء في تربية الأبناء.

سادسًا: خصائص أسلوب الأمر في السورة

• الوضوح: تأتي الأوامر بصيغة مباشرة دون تعقيد.

• الإيجاز: رغم كون الأوامر قصيرة، فإنها تحمل معاني عميقة.

• التدرج: تبدأ من العقيدة، ثم العبادات، ثم السلوكيات الاجتماعية.

• المزج بين الأمر والنهي: توازن تربوي بديع بين الحث والتحذير.

• الربط بين العبادة والسلوك: الصلاة تتبعها أوامر أخلاقية وسلوكية، مما يؤكد على ترابط الدين بالحياة.

سابعًا: الأسلوب البلاغي وتأثيره

يُعتبر استعمال أسلوب الأمر في سورة لقمان عنصرًا بلاغيًا مهمًا، حيث يجمع بين:

• الجمال الإيقاعي: ترتيب الأوامر وتتابعها يُحدث إيقاعًا لغويًا جاذبًا.

• القدرة الإقناعية: اعتماد لقمان على أسلوب الخطاب المباشر يعزز القناعة والإقناع.

• الإيحاء القيمي: لا يقتصر الأمر على توجيه الفعل، بل يزرع قيمة تتجذر في النفس.

ثامنًا: القيمة التربوية لأساليب الأمر في السورة

تحمل الأوامر الواردة في سورة لقمان بعدًا تربويًا متكاملاً، يقوم على مبادئ التربية الإسلامية، ومنها:

• القدوة: لقمان كأب حكيم يُمارس التربية من خلال التوجيه المباشر.

• التركيز على الفعل: الأوامر توجه إلى العمل لا فقط إلى المعرفة.

• الإيجابية: معظم الأوامر تدعو إلى الفعل البنّاء، مثل إقامة الصلاة، وأمر بالمعروف.

• التحذير من الانحراف: النهي عن التكبر، والمرح في المشي، ورفع الصوت.

تاسعًا: أثر أسلوب الأمر على فهم المتلقي

يُحدث أسلوب الأمر أثرًا نفسيًا ولغويًا في المتلقي، إذ يُحفّزه على التفاعل مع النص بشكل مباشر، وينشئ بينه وبين الخطاب علاقة مسؤولية والتزام. وفي سياق السورة، يكون المتلقي أمام نموذج تفاعلي حي: أب يخاطب ابنه، يُنبهه ويأمره ويوجهه، ضمن إطار من المحبة والحكمة، مما يُضفي على النص حيوية ومصداقية عالية.

عاشرًا: الخاتمة التحليلية

إن أساليب الأمر في سورة لقمان تتجاوز وظيفتها اللغوية لتُشكّل محورًا بنيويًا في الخطاب القرآني التربوي، حيث توظف الأوامر في توجيه السلوك، ترسيخ العقيدة، وتنمية الوعي الأخلاقي والاجتماعي. وتأتي هذه الأوامر ضمن بناء لغوي متماسك يربط بين المبدأ والواقع، وبين المعرفة والعمل، فيعرض نموذجًا متكاملًا للتربية الإيمانية الشاملة.

لقد وُظّف أسلوب الأمر في سورة لقمان بطريقة تنسجم مع أهداف السورة ومقاصدها، فشكّل أداة تربوية فعالة، ولغوية راقية، ومعنوية مؤثرة، يستلهم منها الدارسون والمربون رؤى عميقة لبناء الشخصية الإنسانية على ضوء القرآن الكريم.

المراجع:

1. الزركشي، بدر الدين. البرهان في علوم القرآن. دار المعرفة، بيروت.

2. الرازي، فخر الدين. التفسير الكبير. دار إحياء التراث العربي.