في أعماق قلب القارة الجنوبية، تتسارع أحاديث حضارة الإنكا والشعب المويسكا، ملتفة حول مدينة الدورادو، تلك المدينة الغامضة التي أُشيعت أساطيرها عبر العصور. ليست الإنكا والمويسكا فقط من يروجون لقصصها، بل تتغنى بها الأساطير البعيدة أيضًا، فمن بينها يبرز السرد الذي يشير إلى أن المدينة كانت مشيدة من ذهب، بأيدي شعب أطلانتس الذي نجا من غرق مدينتهم العظيمة، متناثرين في مناطق مختلفة على وجه الأرض.
تظهر قصة “الرجل المذهب” كجزء لا يتجزأ من هذا التراث، وفقًا لما وجده المستكشف خوان رودريغيز فريل في كتابه الذي نُشر في عام 1636. يُزعم أن هذه المعلومات تأتي من ابن شقيق قائد تم نصيبه في بحيرة جواتافيتا. يشير اسم الدورادو إلى طقوس يقوم بها شعب المويسكا لاختيار قائدهم الجديد بعد وفاة القائد السابق. وفي هذه الطقوس، يتم اختيار الرجل الجديد ويُكسى بالذهب بشكل كامل، حيث يُغطى بغبار الذهب ويتزين بتاج وإكسسوارات ثمينة. يُعتبر هذا الطقس وسيلة لتحقيق التناغم بين أفراد القبيلة، حيث يُستخدم الذهب لإتمام الطقوس الدينية.
وتبرز ثقافة شعب المويسكا رؤية فريدة حيال الذهب، إذ لا تُعتبر له قيمة اقتصادية بل تُستخدم لأغراض دينية واجتماعية. يُعبِّر الذهب عن الانسجام فيما بينهم، ويتواجد بين أفراد القبيلة بدون أن يكون حكرًا على الطبقة الثرية.
تنقل المستعمرون الأوائل هذه الروايات إلى القارات الجنوبية، وخاصة إلى ثاني الأسبان، الذين تجلت لديهم قصة شعب المويسكا والبحيرة المقدسة بأضاحيها الثمينة. قبل صدور كتاب رخوان، كان الحديث ينتقل شفهياً، حيث كانت هناك قصة الرجل المذهب تتسم بالطابع الديني والروحاني.
تأتي المحطة التالية في هذه السردية الملحمية مع مستكشف جديد، هو بيرسي هاريسون فوست، الذي عاش في عام 1867 وعرف بشغفه بالمغامرات في أرجاء العالم النائية. يتألق فوست كشخصية ملهمة لروايات الاستكشاف، مثل إنديانا جونز، حيث يبحث عن مدينة الدورادو المفقودة. يُشار إلى أن اعتقاد فوست بوجود هذه المدينة لم يكن استنادًا إلى تكهنات فحسب، بل كان مستندًا إلى وثيقة قديمة اكتشفها في مكتبة البرازيل الوطنية.
تحمل هذه المخطوطة، المعروفة بالرقم 512، قصة صياد كنوز برتغالي، ادَّعى اكتشافه لأطلال مدينة قديمة في عمق غابات الأمازون. وصف المدينة بأنها فخمة، تتكون من مبانٍ متعددة الطوابق وقنوات حجرية عالية، وشوارع واسعة. تقود الحروف المنقوشة على الجدران والمعابد والتماثيل إلى التخمين بأنها تشبه اللغة اليونانية أو الأبجدية الأوروبية القديمة. والأهم من ذلك، كانت المدينة تحتوي على العديد من العملات الذهبية.
لكن حتى بعد جهود فوست، لم يتمكن المستكشفون الأسبان من تحديد موقع المدينة المفقودة. انتهت محاولاتهم المتواصلة بفشل مأساوي، حيث انهارت الحفرة قبل استخراج كل الذهب، متسببة في مقتل مئات العمال. ومع ذلك، استمرت أساطير المدينة المصنوعة من الذهب في الظهور، ولم تفقد جاذبيتها وسحرها حتى مع تقدم العصور.
المزيد من المعلومات
تشهد رحلة الاستكشاف إلى مدينة الدورادو مزيدًا من التفاصيل المثيرة والمعقدة، حيث تعود الأصول إلى اعتقادات مستكشفين مثل بيرسي هاريسون فوست ومخطوطته الغامضة رقم 512. تعتبر هذه المخطوطة قطعة مركزية في هذه الأسطورة المستمرة، حيث أدعى صاحبها، الصياد البرتغالي، اكتشاف مدينة قديمة دفينة في غابات الأمازون.
وفي هذا السياق، قد انبثقت تساؤلات حول مدى صحة هذه المخطوطة ومصداقيتها. يشكك علماء الآثار في إمكانية وجود مدن ذهبية ضخمة في قلب غابات الأمازون، حيث يعتبرون هذا التصور غير واقعي نظرًا للظروف البيئية والجغرافية للمنطقة. تحمل المناخ الاستوائي والتضاريس الكثيفة للغابات تحديات غير قابلة للتجاوز لوجود مدن ذهبية كما وُصف في المخطوطة.
ومع ذلك، يظل الأمل حيًا في قلوب الباحثين والمستكشفين، حيث يواصلون البحث عن أدلة تثبت أو تنفي وجود مدينة الدورادو. الاهتمام بمثل هذه القصص والأساطير يعكس تواصل الإنسان مع طموحاته وتشويقه تجاه المجهول والغامض، حيث يبقى البحث عن الكنوز والمدن المفقودة جزءًا من الثقافة الإنسانية.
وفيما يتعلق بالتأثير الثقافي لتلك الأساطير، يعتبر بيرسي فوست من بين الشخصيات التي ألهمت أعمالًا فنية وأدبية، مثل شخصية إنديانا جونز. يظهر تأثير هذه الروايات في إعادة صياغة الشخصيات الاستكشافية في الثقافة الشعبية، حيث يبنى الكثيرون على مغامرات الباحثين والكنوز المفقودة في سياق الروايات والأفلام.
في النهاية، تظل أسطورة مدينة الدورادو جزءًا من تاريخ وتراث الحضارات القديمة في أمريكا الجنوبية. قد تبقى هذه الأسطورة حية في قلوب الباحثين والمستكشفين، ورغم أن الأدلة العلمية قد تشير إلى عدم وجود مدينة ذهبية ضخمة في قلب الأمازون، إلا أن جاذبيتها الروحية والثقافية لا تزال تلهم أجيالًا عديدة في سعيها لاستكشاف أسرار الماضي والعثور على الكنوز الضائعة.