أذكار ما بعد الصلاة: فضلها وأثرها

أذكار بعد الصلاة: فضلها، صيغها، وأثرها في حياة المسلم

تُعَدُّ الأذكار التي تَتْبَع الصلاة المفروضة من العبادات اليومية الثابتة التي لها أثر بالغ في ترسيخ الإيمان، وتهذيب النفس، وطمأنينة القلب. وقد اعتنى الإسلام بأذكار ما بعد الصلاة عناية فائقة، فجعلها سببًا في غفران الذنوب، وزيادة الحسنات، وربط القلب بذكر الله بعد الانتهاء من الفريضة، في استمرارية تامة لحالة العبودية. إن المسلم لا يخرج من الصلاة دون أن يُوصَى بالبقاء في دائرة الذكر والدعاء، ومن هنا تأتي أهمية أذكار ما بعد الصلاة باعتبارها استكمالاً لحالة الخشوع والاتصال الروحي بالله سبحانه وتعالى.

الأذكار بعد الصلاة في ضوء القرآن والسنة

الأذكار التي تقال بعد الصلاة المفروضة ليست اجتهادًا بشريًا، بل هي نصوص نبوية ثابتة وردت في الصحيحين وغيرها من كتب الحديث، وقد التزم بها النبي محمد صلى الله عليه وسلم وعلمها لأصحابه، وحث عليها بشكل مستمر. قال الله تعالى في كتابه الكريم:

“فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبكم” [النساء: 103]، وهذه الآية دليل على أن الذكر لا ينقطع بانتهاء الصلاة، بل يمتد ليملأ حياة المسلم.

وفي الحديث الصحيح عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بعد كل صلاة مكتوبة:

“لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد” [رواه البخاري ومسلم].

أنواع الأذكار الواردة بعد الصلاة

تتضمن أذكار ما بعد الصلاة مجموعة من الأدعية والتسبيحات والألفاظ التي وردت في السنة النبوية، وهي متنوعة من حيث الصيغة والترتيب، لكن الثابت فيها أنها كلها مبنية على ذكر الله والثناء عليه، والدعاء له، والاستغفار، وطلب الرحمة والمغفرة.

التسبيح والتحميد والتكبير

من أشهر الأذكار بعد الصلاة ما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن فقراء المهاجرين جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:

“ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل من أموال، يحجون ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون”، فقال:

“ألا أعلمكم شيئًا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تسبحون، وتحمدون، وتكبرون، دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين” [رواه البخاري ومسلم].

وهذه الصيغة تعني:

• 33 تسبيحة (سبحان الله)

• 33 تحميدة (الحمد لله)

• 33 تكبيرة (الله أكبر)
  
  ويُختم بـ: “لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير”.

الاستغفار

من الأذكار الثابتة بعد الصلاة: “أستغفر الله” ثلاث مرات، وقد ورد في صحيح مسلم عن ثوبان رضي الله عنه قال:

“كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر الله ثلاثًا، وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام”.

وهذا الاستغفار مباشرة بعد الصلاة يُعَدُّ بمثابة توبة من أي خلل أو نقص وقع أثناء تأدية الفريضة.

الأدعية الثابتة بعد الصلاة

بعد التسبيح والاستغفار، هناك أدعية متنوعة يمكن للمسلم أن يدعو بها بعد صلاته، منها ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها ما هو من الأدعية العامة الجائزة. من الأدعية الواردة:

• “اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك”

• “اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين”

• “اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد”

أهمية وفضائل أذكار ما بعد الصلاة

إن المواظبة على أذكار ما بعد الصلاة ليست مجرد عادة دينية، بل هي عبادة عظيمة الأثر على القلب والروح والسلوك، ويترتب عليها مجموعة من الفضائل التي تعود على المسلم في دنياه وأخراه.

غفران الذنوب

روى الإمام مسلم عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

“من قال دبر كل صلاة مكتوبة: سبحان الله ثلاثًا وثلاثين، والحمد لله ثلاثًا وثلاثين، والله أكبر ثلاثًا وثلاثين، ثم قال تمام المئة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر”.

رفع الدرجات وزيادة الحسنات

الاستمرار في ذكر الله بعد الصلاة يُسهم في رفع الدرجات عند الله، وإضافة رصيد من الحسنات في ميزان العبد، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:

“سبق المفردون”، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات” [رواه مسلم].

طمأنينة القلب واستمرار الاتصال بالله

الذكر بعد الصلاة يربط العبد بالله مباشرة بعد خروجه من لحظة الخشوع، فيكون بذلك امتدادًا لصفاء النفس ونقائها، ويمنح القلب سكينة لا تُوصف، كما قال تعالى:

“ألا بذكر الله تطمئن القلوب” [الرعد: 28].

اختلاف الصيغ وتنوع الذكر

التنوع في الأذكار بعد الصلاة هو من السنن، ويُعَدُّ من مظاهر الرحمة والتيسير، حتى لا يملّ الإنسان من تكرار صيغة واحدة. ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم عدة صيغ يمكن التناوب بينها. ويمكن للمسلم أن يختار من بينها حسب حاله وقدرته، أو يجمع بين أكثر من صيغة في أوقات مختلفة.

جدول توضيحي لبعض الأذكار الثابتة بعد الصلاة:

الأذكار الجماعية والفردية بعد الصلاة

اختلف العلماء في مسألة الأذكار الجماعية بعد الصلاة، ولكن الراجح والمحفوظ من سنة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يذكر الله بعد الصلاة منفردًا، وكان أصحابه كلٌّ يذكر الله بطريقته وصوته، حتى يُعلَم أنهم قد فرغوا من الصلاة. وهذا يدل على أن الأذكار بعد الصلاة تُقال بشكل فردي، وليست جماعية ولا موحدة بصوت جماعي.

أثر أذكار ما بعد الصلاة على سلوك المسلم

إن المحافظة على أذكار ما بعد الصلاة تُعزِّز من الرقابة الذاتية لدى المسلم، وتغرس فيه الإيمان العملي لا النظري فقط. فالمسلم الذي يذكر الله في كل وقت، لا يسهل عليه الوقوع في المعصية، وتراه أقرب إلى التواضع، وحسن الخلق، والبُعد عن الظلم والعدوان.

كما أن هذه الأذكار تعمل كدرع نفسي وروحي يحمي المسلم من الوساوس، ويقوي مناعته الإيمانية ضد الفتن والابتلاءات. إنها تُعد بمثابة شحنة روحية تُجدَّد خمس مرات يوميًا بعد كل فريضة، تضمن للعبد دوام الاتصال بربه، وعدم الانقطاع عن المعنى الحقيقي للعبادة.

مواضبة السلف على الأذكار بعد الصلاة

كان السلف الصالح رحمهم الله يعظمون هذا الباب من العبادة، ويحرصون على المداومة عليه، ويعدّونه من علامات الصلاح والإيمان. فقد نُقِل عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أنه كان يُكثِر من قول “لا إله إلا الله وحده لا شريك له…” بعد كل صلاة حتى يُسمع صوته في أطراف المسجد.

كذلك الإمام النووي في كتابه “الأذكار” أفرد فصولًا كاملة لأذكار ما بعد الصلاة، ونبّه على أهميتها ومكانتها في حياة المسلم.

التوصيات في العمل بهذه الأذكار

• يفضل أن يقول المسلم هذه الأذكار في مكانه بعد انتهاء الصلاة مباشرة، قبل أن يتحول إلى أي عمل دنيوي.

• يمكن الاحتفاظ ببطاقة أو كتيب صغير يتضمن الأذكار لتيسير المداومة عليها حتى يحفظها الإنسان.

• لا بأس في استخدام التطبيقات الحديثة التي تنبه المسلم وتعرض له الأذكار اليومية، مع ضرورة الحرص على استحضار القلب وعدم الاكتفاء بالتكرار اللساني.

المصادر والمراجع

• صحيح البخاري، كتاب الأذان، باب الذكر بعد الصلاة.

• صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة.