أحمد باشا الجزار: سيرة قائدٍ عثمانيٍ غيّر ملامح الشام

يُعَدّ أحمد باشا الجزار واحداً من أبرز الشخصيات العسكرية والإدارية في تاريخ الدولة العثمانية خلال القرن الثامن عشر، حيث ارتبط اسمه بمدينة عكا في بلاد الشام ارتباطاً وثيقاً، ليس فقط بسبب دفاعه البطولي عنها في وجه الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت، وإنما أيضاً بسبب شخصيته الفذة التي جمعت بين الحزم والشدة في الحكم، والبراعة في التنظيم والإدارة، والرغبة العميقة في إرساء سلطة قوية في منطقة كانت تتجاذبها الأهواء السياسية والنزاعات الداخلية والخارجية.

النشأة والبدايات

ولد أحمد باشا الجزار حوالي عام 1734 في البوسنة، وتحديداً في مدينة نيفيسين، وكان اسمه الأصلي “فرانسو” قبل أن يعتنق الإسلام. نشأ في بيئة عسكرية صارمة، تأثر فيها بتقاليد الانكشارية العثمانية. انتقل في شبابه إلى إسطنبول، حيث جذب انتباه القائد العثماني علي بك الكبير في مصر، فالتحق بخدمته وأثبت كفاءته، ليبدأ بذلك مسيرته الطويلة والمعقدة في الشرق الأوسط، متنقلاً بين القاهرة، وصيدا، وطرابلس، وعكا.

التكوين العسكري والمهني

تميز الجزار بشخصية حديدية وميل واضح إلى استخدام القوة والعنف في فرض النظام، وقد أكسبه ذلك احتراماً ومهابةً كبيرتين. تلقى تدريبه العسكري ضمن صفوف الانكشارية، حيث برع في فنون القتال، والتكتيك الحربي، وإدارة الحملات العسكرية، وهو ما جعله مرشحاً مثالياً لتولي مهام سياسية وعسكرية في أماكن التوتر والصراع.

صعوده إلى الحكم في عكا

بعد اضطرابات طويلة في بلاد الشام، تميزت بالانقسامات بين الزعامات المحلية مثل الزيدانيين والنقولاويين، تم تعيين الجزار والياً على صيدا وعكا عام 1775، فبدأ مرحلة جديدة في مسيرته، تميّزت بإعادة تنظيم الحياة السياسية والاقتصادية في المنطقة. عمد إلى تثبيت الأمن، وبنى جهازاً أمنياً صارماً، وفرض الضرائب بصورة منهجية، كما أنشأ شبكة إدارية واسعة تشمل قادة محليين وجباة وعيوناً سريين، مما جعل من عكا قاعدة محورية لنفوذه.

الجزار وبناء عكا الجديدة

سخّر أحمد باشا الجزار الموارد التي جمعها من الضرائب والجباية ومن التجارة البحرية ليعيد بناء مدينة عكا، فحوّلها إلى حصن منيع وقوة اقتصادية معتبرة. شيد فيها المسجد الكبير المعروف اليوم بـ”مسجد الجزار”، الذي يعد من أهم المعالم المعمارية العثمانية خارج إسطنبول. كما أنشأ سوقاً مركزياً وقلاعاً وأسواراً ضخمة أحاطت بالمدينة، وعزز دفاعاتها البحرية والبرية. أصبحت عكا في عهده رمزاً للقوة والعمران، وتحولت إلى مركز تجاري هام استقطب الحرفيين والتجار من مختلف أنحاء المشرق.

المواجهة مع نابليون بونابرت

في عام 1799، واجه أحمد باشا الجزار تحدياً مصيرياً عندما شن نابليون بونابرت حملة عسكرية على بلاد الشام، بعد احتلاله لمصر، بهدف التوسع شمالاً وتهديد النفوذ البريطاني في الهند. استهدفت الحملة مدينة عكا التي كان يراها نابليون نقطة استراتيجية حاسمة، فحاصرها حصاراً شديداً دام أكثر من شهرين.

أظهر الجزار في هذه المعركة شجاعة نادرة وحكمة عسكرية عالية، حيث استعان بخبرات مهندسين عسكريين، أبرزهم الضابط الفرنسي المرتد “فيليبو” (المعروف باسم الحاج علي)، الذي ساعد في تقوية دفاعات المدينة. رغم التفوق العددي والعتادي للجيش الفرنسي، إلا أن الحصار فشل فشلاً ذريعاً. تكبد الفرنسيون خسائر كبيرة في الأرواح والمعدات، وانسحب نابليون مهزوماً، وهو ما عدّه كثير من المؤرخين نقطة تحول في حملته على الشرق، ونقطة نصر مشرقة في تاريخ أحمد باشا الجزار.

سياسة الجزار الداخلية

اتسمت سياسة أحمد باشا الجزار بالحزم الشديد، بل وبالاستبداد أحياناً. كان لا يتوانى عن معاقبة من يعارضه بقسوة شديدة، سواء كانوا من الزعامات المحلية أو التجار أو حتى القادة العسكريين التابعين له. ومع ذلك، تمكن من الحفاظ على استقرار نسبي في المنطقة، وأدار شؤون الحكم بكفاءة، وكان حريصاً على جمع الضرائب وتوزيع المهام الإدارية بطريقة مركزية صارمة.

اعتمد الجزار أيضاً على جهاز استخباراتي محكم، كان يرصد تحركات الزعامات المحلية والقبائل والتجار، ويزود الوالي بالمعلومات التي تساعده على ضبط الأوضاع الداخلية. كان يتمتع بشخصية حازمة قادرة على فرض الهيبة، مما جعل معارضيه يترددون كثيراً في مواجهته.

التنظيم العسكري والبنية الدفاعية

اهتم الجزار ببناء جيش خاص له، مكون من عناصر مرتزقة ومحاربين من خلفيات متنوعة، مزودين بأحدث الأسلحة المتاحة آنذاك. لم يكن جيشه نظامياً بالكامل على النمط العثماني التقليدي، بل اعتمد على توليفة من المرتزقة والمقاتلين المحليين، مما أتاح له حرية أكبر في الحركة بعيداً عن بيروقراطية الدولة العثمانية المركزية. قام بتحصين المدن التي كانت تحت حكمه، خاصة عكا، حيث أنشأ أسواراً عالية، وزودها بمدافع ضخمة، وشبكة أنفاق ومخازن داخلية لإمداد الحامية بالغذاء والمؤن أثناء الحصار.

العلاقات مع الدولة العثمانية

رغم أنه كان والياً باسم الدولة العثمانية، فإن أحمد باشا الجزار مارس سلطته كحاكم مستقل فعلياً. كان يدفع الضرائب السنوية للسلطنة، ويبعث بالهدايا إلى إسطنبول، لكنه في المقابل كان يحتفظ بسلطة شبه مطلقة على الشام الغربي. غضّت الدولة العثمانية الطرف عن ممارساته المستقلة نظراً لحاجتها إلى قائد قوي يضبط المنطقة التي كانت مسرحاً للتمردات والطموحات الخارجية، خاصة مع تصاعد التهديدات الأوروبية على سواحل البحر المتوسط.

الإنجازات العمرانية

امتدت إنجازات الجزار إلى مجالات البنية التحتية والعمران، حيث أنشأ الجسور والطرق، وشق قنوات مائية لتسهيل الري والزراعة. ومن أبرز ما تركه أيضاً “السبيل”، وهي عين ماء عامة ما زالت قائمة في عكا، كانت تزوّد الناس بالمياه مجاناً. كما أنشأ حمامات عامة وخانات لاستضافة الزوار والتجار، مما ساعد في تنشيط التجارة الداخلية والخارجية.

تدهور صحته ووفاته

في سنواته الأخيرة، بدأ أحمد باشا الجزار يعاني من المرض والشيخوخة، لكنه ظل متمسكاً بالسلطة، حتى وافته المنية في عام 1804. دفن في المسجد الكبير الذي بناه في عكا، في جناح مخصص له بجانب قبر ابنه بالتبني سليمان باشا، الذي تولى الحكم بعده.

الإرث السياسي والتاريخي

خلّف أحمد باشا الجزار إرثاً مزدوجاً. فمن جهة، يُنظر إليه كقائد قوي أنقذ بلاد الشام من السقوط في يد الاحتلال الفرنسي، وكمهندس لبنية إدارية قوية في زمن الفوضى. ومن جهة أخرى، ينظر إليه بعض المؤرخين باعتباره حاكماً مستبداً استخدم العنف المفرط لإخماد أي معارضة. لكن معظم الدراسات الحديثة تميل إلى الاعتراف بأهمية دوره التاريخي في الحفاظ على استقلالية بلاد الشام في وجه الأطماع الخارجية، وتعزيز مكانة عكا كمركز سياسي وعسكري واقتصادي في المنطقة.

الجدول التالي يلخص أبرز المحطات في حياة أحمد باشا الجزار:

المراجع

1. Philip Mansel, Levant: Splendour and Catastrophe on the Mediterranean, Yale University Press, 2010.

2. Ahmad Hasan Joudah, Revolt in Palestine in the Eighteenth Century: The Era of Shaykh Zahir al-Umar, Princeton University Press, 1987.