أحمد الصافي النجفي: شاعر الغربة

أحمد الصافي النجفي: شاعر الغربة والاغتراب بين روح التراث وقلق العصر

يُعدّ الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي (1897–1977) أحد أبرز أعلام الشعر العربي الحديث في النصف الأول من القرن العشرين، فقد اجتمع في شخصيته وتجربته الشعرية مزيجٌ فريد من الأصالة والتمرد، من التراثية والحداثة، ومن الحنين إلى الوطن والتوق إلى التحرر الفكري والسياسي. عاش النجفي حياة حافلة بالأسفار، مغمورة بالتقشف والتأمل، متقلبة بين المنافي والمرض والاغتراب، ومع ذلك بقي شعره شاهداً ناطقاً على مراحل حساسة من تاريخ العراق والعالم العربي.

ولد أحمد الصافي النجفي في مدينة النجف الأشرف، وهي واحدة من أكثر المدن العربية عمقاً في التراث الديني والأدبي. لم يكن انتماؤه لأسرة دينية بارزة سوى عامل إضافي في تشكيل وعيه المبكر بالثقافة الإسلامية والتاريخ العربي، فقد درس في الحوزة الدينية وتعمق في علوم اللغة والأدب والمنطق والفلسفة، إلا أن ميوله الشعرية سرعان ما تجاوزت حدود التقليد الفقهي، لينطلق نحو آفاق أوسع من التأمل الفلسفي والتحرر الإنساني.

الملامح المبكرة لمسيرته الشعرية

بدأ النجفي نظم الشعر في سن مبكرة، وكان في بداياته يميل إلى التقليد والمحاكاة، شأنه في ذلك شأن معظم شعراء عصره، حيث كتب القصائد العمودية بأساليب مستلهمة من فحول الشعر العربي القديم، كالمتنبي وأبي تمام والبحتري. لكن سرعان ما تمرد على هذه القوالب الكلاسيكية، متجهاً إلى أسلوب خاص به، يتسم بالسخرية والجرأة والتأمل العميق، كما اتسم بالبساطة في اللغة والابتعاد عن التعقيد اللفظي.

كان للغربة أثر بالغ في تشكيل روح النجفي الشعرية. فقد أجبرته الأوضاع السياسية والاجتماعية في العراق على مغادرته في فترات متقطعة، متنقلاً بين إيران وسوريا ولبنان ومصر، حيث واجه مشاق الغربة والمرض والفقر، لكنها منحت شعره أيضاً أبعاداً إنسانية عميقة، فظهر في شعره صوت الغريب التائه، والحكيم الحزين، والعاشق المتشظي، والمثقف الثائر.

المنفى والحس الوجودي

في الكثير من قصائد النجفي، نجد موضوعات الاغتراب والوجود والعدم تشغل الحيز الأكبر، فهو شاعر لم يتغنَّ بالوطن كتغنٍ عاطفي مجرد، بل استبطن الوطن كقلق وجودي دائم، وكان المنفى بالنسبة له ليس مجرد مكان جغرافي بل حالة داخلية يعيشها حتى وهو على أرضه. وهذا ما يجعل شعره قريباً من التجربة الشعرية العالمية، لا سيما تلك التي ظهرت في أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، حيث تأثرت بمشاعر القلق واللاجدوى والعبث.

تميّزت قصائد النجفي بقدر كبير من الصراحة والانكشاف. فهو لا يتردد في التعبير عن يأسه من الواقع، ولا يتوانى عن نقد رجال الدين أو الطغاة أو حتى الجمهور الذي يقبل بالخنوع. وقد دفعته هذه النزعة النقدية إلى تبني أسلوب شعري ساخر في كثير من الأحيان، كان يستخدم فيه السخرية كوسيلة مقاومة، وكأداة تفكيك للأفكار السائدة.

النزعة الفلسفية في شعره

أحمد الصافي النجفي لم يكن شاعراً غنائياً بالمعنى التقليدي، بل يمكن القول إنه أقرب إلى الفيلسوف الذي يستخدم الشعر كوسيلة للتأمل. كثير من قصائده تتناول موضوعات الوجود، والعدم، والحقيقة، والموت، والخلود، والحكمة. كان يتأمل في معنى الحياة، في عبثية الوجود، في تناقضات النفس البشرية، وكان يضع هذه الأسئلة في أبيات مكثفة تمزج بين الحس الصوفي والفكر العقلي.

من أبرز سمات شعره الفلسفي أنه لم يكن متعالياً أو غامضاً، بل اتسم بالوضوح والبساطة في التعبير، كما اعتمد في كثير من الأحيان على الرمزية الواضحة والمباشرة. لقد تأثر في هذا السياق بالتصوف الإسلامي من جهة، وبالأدب الفرنسي والفكر الوجودي الذي اطلع عليه خلال إقامته في بيروت وقراءته للأدب الغربي.

شعره الوطني والسياسي

لم يكن أحمد الصافي النجفي بمنأى عن الواقع السياسي المتقلب في العراق والمنطقة العربية. فقد كتب قصائد قوية ضد الاحتلال البريطاني، وانتقد الأنظمة الملكية، وأعلن تأييده للثورات التحررية. لكنه في الوقت ذاته لم يقع في فخ الشعر السياسي المباشر، بل حافظ على شاعرية النص وعمقه الفكري، ما جعله صوتاً فريداً في زمن كانت فيه الأصوات الشعرية تميل إلى الشعارات والخطابية.

لقد عاش النجفي زمن التحولات الكبرى: من الدولة العثمانية إلى الانتداب البريطاني، ومن الملكية إلى الجمهورية، ومن حلم النهضة إلى خيبات الاستقلال، وكان شاهدًا على جميع تلك المراحل بشعره، الذي ظل محافظاً على نزاهته الفكرية واستقلاله الشخصي. وقد دفع ثمناً باهظاً لهذا الاستقلال، حيث عاش فترات طويلة في فقر مدقع، يعاني من المرض والوحدة، دون أن يمد يده للسلطة أو يبحث عن منصب أو جاه.

في بيروت: مرحلة الإبداع والنضج

أقام الصافي النجفي فترة من الزمن في بيروت، وكانت هذه المرحلة من أخصب مراحل حياته إبداعياً، فقد نشر فيها العديد من مؤلفاته، واحتك بالعديد من المثقفين والكتاب، وانخرط في الحياة الثقافية اللبنانية والعربية. وقد ترسخ في هذه المرحلة أسلوبه الفريد الذي يمزج بين الفكاهة والحكمة، وبين السخرية والتصوف، وبين الواقعية والرمزية.

من أبرز مؤلفاته التي كتبها في بيروت ديوان “الأهازيج العراقية”، والذي تضمن نمطاً خاصاً من الشعر الشعبي الهادف، وكذلك مؤلفه “ذكرياتي” الذي يعتبر شهادة أدبية على عصره. كما نشر ترجمات لأعمال فرنسية وفارسية، ما يدل على سعة اطلاعه وتنوع ثقافته.

السمات الأسلوبية لشعر الصافي النجفي

يتسم شعر أحمد الصافي النجفي بعدة خصائص فنية وأسلوبية جعلته مميزاً عن سواه من الشعراء المعاصرين له، ومن هذه الخصائص:

• اللغة البسيطة والعميقة: فقد استطاع أن يصوغ أفكاره المعقدة بلغة سهلة ومرنة، بعيدة عن الغموض أو التكلف.

• السخرية الأدبية: وهي سخرية راقية، تحمل عمقًا فكريًا، وليست تهكمًا مجانيًا.

• الرمزية المباشرة: استخدم رموزًا واضحة تشير إلى أفكاره دون أن تغرق في الإبهام.

• المزج بين الفصحى والعامية: خاصة في “الأهازيج”، حيث كتب باللهجة العراقية بأسلوب شعري رشيق.

• الحكمة الشعرية: كثير من أبياته تُردد كأمثال أو حكم، نظرًا لعمقها وسهولة حفظها.

جدول: أبرز مؤلفات أحمد الصافي النجفي

إرثه الثقافي والأدبي

رغم الظروف القاسية التي عاشها أحمد الصافي النجفي، فقد ترك إرثاً أدبياً عميقاً لا يزال محل تقدير ودراسة. إن تجربته الشعرية تمثل حالة من الرفض المستمر للواقع السياسي والاجتماعي، ومن التمرد على السائد، وهي تجربة تستحق أن تُعاد قراءتها في ضوء التحولات المعاصرة، لا سيما مع ما يشهده العالم العربي من انتكاسات ثقافية وفكرية.

لم يكن النجفي شاعر عصره فحسب، بل كان ضميراً حياً لشعبه، ومرآة لأزمات عصره، وصوتاً للحكمة وسط ضجيج الشعارات. لقد عاش صادقاً مع نفسه، شجاعاً في مواقفه، زاهداً في المناصب، منغمساً في الكلمة والوجدان. ومات كما عاش، متقشفاً في دنياه، غنيًا بشعره وفكره.

وقد دفن في النجف، المدينة التي أحبها وغادرها كثيراً وعاد إليها أخيراً، لتكون مرقده الأخير، شاهداً على حياة شاعرٍ عانى كثيراً، لكنه أنار دروب الكلمة الحرة، وجعل من الشعر جسراً نحو الإنسان.

المصادر

• علي جواد الطاهر، أحمد الصافي النجفي: حياته وشعره، دار العلم للملايين، بيروت.

• موسوعة أعلام العراق في القرن العشرين، الجزء الثاني، وزارة الثقافة العراقية.