هل يحلم الطفل؟ هل يكتئب الرضيع؟ — استكشاف علمي ونفسي معمق

تُعد مرحلة الطفولة المبكرة، وتحديدًا مرحلة الرضاعة، من أكثر المراحل حساسية وغموضًا في حياة الإنسان. فعلى الرغم من التقدم العلمي والتقني الكبير في مجالات علم النفس وعلم الأعصاب، لا تزال الأسئلة المتعلقة بالحياة الذهنية والنفسية للرضع تثير جدلاً واسعًا في الأوساط العلمية والطبية. من بين أبرز هذه الأسئلة: هل يحلم الطفل؟ وهل يكتئب الرضيع؟ للإجابة الدقيقة على هذين السؤالين، لا بد من الغوص في البنى العصبية للدماغ في مراحله الأولى، وفهم مكونات الحالة النفسية للرضيع، بالإضافة إلى مراجعة الأبحاث العلمية التي تناولت هذا الموضوع من جوانبه المختلفة، ما يتيح رسم صورة شاملة وعلمية للموضوع.

البنية الدماغية للرضيع: هل هو مهيأ للحلم؟

يشير تطور الجهاز العصبي لدى الرضع إلى نمو متسارع ومكثف خلال السنة الأولى من الحياة. فعند الولادة، يمتلك الرضيع حوالي 100 مليار خلية عصبية، وهو عدد يقارب عدد الخلايا العصبية في دماغ البالغين. غير أن هذه الخلايا لا تكون بعد متصلة تمامًا، وتبدأ في تشكيل الشبكات العصبية من خلال التجارب الحسية والروابط العاطفية.

مرحلة النوم عند الرضع

يُمضي الرضيع حوالي 14 إلى 17 ساعة يوميًا في النوم، معظمها ضمن ما يُعرف بمرحلة نوم حركة العين السريعة (REM Sleep)، وهي المرحلة التي يربطها العلماء غالبًا بالأحلام عند البالغين. هذه المرحلة تُعد حيوية في عملية التكوين العصبي، وتكون أطول نسبيًا عند الرضع مقارنة بالبالغين، إذ قد تصل إلى 50% من مدة نومهم.

يشير بعض علماء الأعصاب إلى أن وجود مرحلة نوم حركة العين السريعة، المصحوبة بحركات وجهية غير إرادية وابتسامات خفيفة أو حتى تجهمات، قد تكون مؤشرًا على وجود نوع من “النشاط الذهني التصوري” أو ما يمكن تسميته مبدئيًا بـ”الحلم”. غير أن هذه الأحلام، على عكس أحلام البالغين، لا تستند إلى رموز لغوية أو محتوى مركب، بل يُرجح أن تكون عبارة عن إعادة تنظيم حسي أو بصري لصورة الأم، أو أصوات مألوفة، أو تجارب جسدية مثل الجوع أو الشبع.

محتوى الحلم عند الطفل

نظريًا، لا يمكن التأكد من طبيعة الحلم عند الرضع لغياب القدرة اللغوية على التعبير، لكن يُعتقد أن الأحلام عندهم تتشكل من الأحاسيس التي يمرون بها يوميًا، مثل الرضاعة أو الإحساس بالدفء أو البرودة، أو الاستجابة لملامح وجه الأم. إن دماغ الطفل يسجل باستمرار التفاعلات الحسية والعاطفية، ويُرجّح أنه يُعيد معالجتها خلال النوم على شكل أنماط عصبية داخلية. وعلى الرغم من أن هذه الأنماط لا تُماثل أحلام البالغين التي تتضمن حبكة وقصة، فإنها تُعتبر شكلًا بدائيًا من الحلم.

هل يكتئب الرضيع؟ فهم الاكتئاب في أولى مراحل الحياة

الاكتئاب في الرضع يُعد من الموضوعات التي تُثير الكثير من الحذر في معالجتها نظرًا لحساسية المرحلة العمرية وقصور وسائل التعبير عند الطفل. ومع ذلك، فإن علم النفس التطوري والطب النفسي قد بدأا منذ منتصف القرن العشرين في توثيق مظاهر الاضطرابات العاطفية في الطفولة المبكرة، لا سيما لدى الرضع المعرضين لظروف نفسية أو اجتماعية أو صحية قاسية.

الاكتئاب عند الرضع: تعريف ومفاهيم

يُعرف “اكتئاب الرضيع” علميًا بأنه مجموعة من الأعراض السلوكية والانفعالية التي تظهر على الرضيع، والتي تعكس حالة اضطراب في التفاعل الاجتماعي والعاطفي، وغالبًا ما تكون ناتجة عن انقطاع العلاقة الآمنة مع مقدم الرعاية الأساسي، عادةً الأم. يُطلق على هذه الظاهرة أحيانًا اسم “متلازمة الحرمان العاطفي”، وقد درسها الطبيب النفساني الشهير رينيه شبيتز في أربعينات القرن الماضي من خلال ملاحظاته للرضع في دور الأيتام.

علامات اكتئاب الرضيع

قد تظهر علامات الاكتئاب عند الرضع من خلال عدة مظاهر، أبرزها:

• الانسحاب الاجتماعي: يتوقف الطفل عن التفاعل مع الوجوه، ولا يُبدي اهتمامًا بالأصوات أو الألعاب.

• قلة تعبير الوجه: يختفي التفاعل العاطفي مع الأم أو مقدمي الرعاية، مثل الابتسام أو البكاء التفاعلي.

• اضطرابات في النوم والتغذية: يرفض الرضاعة أو ينام لفترات غير طبيعية سواء بالزيادة أو النقص.

• الخمول أو التهيج الشديد: يظهر على الرضيع إما خمول غير معتاد أو نوبات من البكاء الحاد دون أسباب عضوية واضحة.

• فقدان الوزن: في الحالات المتقدمة، قد يتراجع الوزن ويظهر ما يُعرف بـ”فشل النمو النفسي”.

الأسباب المؤدية لاكتئاب الرضيع

تشمل العوامل المؤدية إلى ظهور الاكتئاب عند الرضع مجموعة من الظروف التي تعيق النمو العاطفي الصحي، ومن أبرزها:

الآثار طويلة المدى لاكتئاب الرضع

تشير الدراسات إلى أن الرضع الذين يعانون من اضطرابات انفعالية في سن مبكرة، خصوصًا إذا لم يتم تداركها، قد يواجهون لاحقًا صعوبات نفسية وسلوكية مثل:

• تأخر في النمو اللغوي والمعرفي.

• ضعف الثقة بالنفس وانخفاض التفاعل الاجتماعي.

• زيادة مخاطر القلق والاكتئاب في مراحل الطفولة المتقدمة والمراهقة.

• مشاكل في تكوين العلاقات العاطفية السليمة.

إن الاكتئاب في هذه المرحلة لا يُعتبر مجرد حالة طارئة، بل هو حجر أساس يمكن أن يبني أو يهدم صحة الفرد النفسية في مراحل لاحقة.

العلاقة بين الحلم والاكتئاب في الطفولة المبكرة

رغم أن موضوع الحلم لدى الرضع والاكتئاب عندهم يبدو للوهلة الأولى موضوعين منفصلين، إلا أن هناك ترابطًا خفيًا على مستوى الوظائف الدماغية. فالنوم، وتحديدًا مرحلة حركة العين السريعة، يلعب دورًا أساسيًا في معالجة المشاعر لدى البالغين، ومن المرجح أن يكون له الدور نفسه عند الرضع. إذا تأثرت هذه المرحلة من النوم نتيجة للاضطرابات العاطفية، فإن عملية بناء المشاعر وتنظيمها قد تتعرض للخلل، ما ينعكس لاحقًا في شكل اضطرابات وجدانية كالاكتئاب.

التدخل المبكر وأهمية الرعاية الحنونة

تؤكد منظمات الصحة العالمية والجهات المختصة في صحة الأم والطفل أن تقديم رعاية نفسية واجتماعية سليمة منذ لحظة الولادة لا يحمي فقط من الاكتئاب، بل يعزز من النضج العصبي والعاطفي، ويشكل أساسًا لصحة عقلية متينة في المستقبل.

طرق الوقاية والعناية:

• التواصل البصري واللمسي: حمل الطفل، النظر إليه، التفاعل مع ابتسامته وبكائه.

• الرضاعة الطبيعية: لا توفر فقط الغذاء، بل تشكل جسرًا عاطفيًا عميقًا بين الأم والرضيع.

• الاستجابة الفورية للبكاء: تُعزز من الإحساس بالأمان وتُطوّر الثقة بالبيئة.

• توفير بيئة هادئة ومستقرة: خالية من الصراخ أو التوتر أو الضوضاء.

• الرصد الدوري للحالة النفسية للأم: خصوصًا في حالة وجود أعراض لاكتئاب ما بعد الولادة.

الخاتمة

إن عالم الرضع ليس مجرد حياة فيزيولوجية بسيطة، بل يحمل في طياته نشاطًا دماغيًا وعاطفيًا مكثفًا يُبنى عليه المستقبل النفسي والمعرفي للفرد. الحلم عند الرضع هو انعكاس أولي لبدء تشكل الوعي، في حين أن الاكتئاب هو مؤشر على اختلال في البيئة العاطفية. وإن الاعتراف بهاتين الظاهرتين – رغم صعوبتهما في التشخيص – هو خطوة أولى نحو بناء بيئة صحية وسليمة لنمو الإنسان منذ لحظاته الأولى.

المراجع:

1. Spitz, R. A. (1945). Hospitalism: An inquiry into the genesis of psychiatric conditions in early childhood. The Psychoanalytic Study of the Child.

2. Tronick, E. Z., & Weinberg, M. K. (1997). Depressed mothers and infants: Failure to form dyadic states of consciousness. Psychopathology and the Parent–Child Relationship.