يُعد التعامل مع الناس من أهم مظاهر الحياة الاجتماعية التي اعتنى بها الإسلام، حيث وضع لها أسسًا راسخةً وقواعدَ ساميةً ترتكز على الرحمة، والعدل، والإحسان، والتسامح. وقد تجلت هذه المبادئ في سيرة النبي محمد ﷺ، الذي مثّل قمة الأخلاق في تعامله مع الناس على اختلاف مراتبهم، وأوصى بها في سنته القولية والعملية، مما جعل من السنة النبوية مصدرًا ثريًا في تقويم سلوك المسلم وتوجيهه نحو بناء علاقات إنسانية قائمة على القيم الأخلاقية النبيلة.
أهمية التعامل الحسن في الإسلام
جعل الإسلام حسن الخلق والتعامل الحسن مع الناس من علامات كمال الإيمان، بل قرن بين العبادة وبين حسن المعاملة، وجعلها معيارًا للتقوى والصلاح. ويقول رسول الله ﷺ:
“أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم” (رواه الترمذي).
هذا الحديث الشريف يربط بوضوح بين الإيمان وحسن الخلق، ويؤكد أن التعامل مع الآخرين، لا سيما مع من نعيش معهم، هو معيار رفيع لتقييم صلاح العبد.
نماذج من الأحاديث النبوية في حسن التعامل
1. التواضع مع الناس
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال:
“ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله” (رواه مسلم).
يشير هذا الحديث إلى أهمية التواضع والعفو والكرم في بناء علاقات سوية وراقية بين الناس، ويبرز كيف أن هذه الصفات تعود على صاحبها بالعزة والرفعة، وليس بالنقص كما يظن البعض.
2. الرحمة والتراحم
قال رسول الله ﷺ:
“الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء” (رواه الترمذي).
الرحمة مبدأ مركزي في الإسلام، ويشمل جميع الناس بل والكائنات كلها. التوجيه النبوي هنا ليس فقط إلى الرحمة الفردية، بل إلى خلق بيئة اجتماعية قائمة على الشفقة والرعاية المتبادلة.
3. الإحسان في التعامل مع الجار
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ:
“ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورّثه” (رواه البخاري ومسلم).
يُعلي هذا الحديث من شأن العلاقة مع الجيران، حيث بيّن النبي ﷺ مدى تأكيد جبريل عليه السلام لهذا الحق، حتى ظن أنه سيجعل له حظًا في الميراث، وهو تعبير عن مدى عمق العلاقة المطلوبة بين الجيران.
4. الكلمة الطيبة
قال رسول الله ﷺ:
“والكلمة الطيبة صدقة” (رواه البخاري ومسلم).
الكلمة الطيبة ليست مجرد مجاملة، بل هي عبادة وقربة إلى الله. في هذا الحديث نجد أن النبي ﷺ يعلي من شأن الكلام الإيجابي في العلاقات الإنسانية، ويضعه في مرتبة الصدقة.
5. الإصلاح بين الناس
قال رسول الله ﷺ:
“ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة” (رواه أبو داود).
هذا الحديث يوضح عظمة الإصلاح بين الناس، ويرفعه فوق العبادات الفردية، ويشير إلى أن الخلافات بين الناس قد تفسد ما بناه المجتمع من أواصر محبة ووحدة.
القيم الأخلاقية في السنة النبوية
تضمنت الأحاديث النبوية منظومة قيم متكاملة يمكن تصنيفها على النحو التالي:
| القيم الأخلاقية | شرح مختصر | الحديث الدال |
|---|---|---|
| العدل | إحقاق الحق وعدم الميل في الحكم | “اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم” (رواه البخاري) |
| الصبر | التحمل وضبط النفس | “ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب” (رواه البخاري ومسلم) |
| الصدق | قول الحق في كل الأحوال | “عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر” (رواه مسلم) |
| الأمانة | حفظ الحقوق وعدم الخيانة | “أدّ الأمانة إلى من ائتمنك” (رواه الترمذي) |
| الوفاء بالوعد | الالتزام بالعهد | “آية المنافق ثلاث… وإذا وعد أخلف” (رواه البخاري) |
| التسامح | العفو وعدم الانتقام | “من كظم غيظًا وهو قادر على أن يُنفذه دعاه الله…” (رواه الترمذي) |
تعاليم نبوية في المواقف اليومية
عند الغضب
كان النبي ﷺ يوصي بالسكوت والوضوء وتغيير الحالة الجسدية عند الغضب، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ:
“إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع” (رواه أبو داود).
في السوق
كان ﷺ إذا دخل السوق يقول:
“من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له…” (رواه الترمذي)، وكان يتعامل بالحسنى ويأمر بالصدق في البيع والشراء.
في السفر
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي ﷺ قال:
“الناس تبع لقريش في هذا الشأن، مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم، والناس تبع لأهل الحجاز” (رواه مسلم).
وفي ذلك إشارات إلى ضرورة حسن التعامل أثناء السفر، واحترام تقاليد الناس ومجتمعاتهم.
التعامل النبوي مع غير المسلمين
لم يكن تعامل النبي ﷺ مع غير المسلمين قائمًا على التفرقة أو القسوة، بل تميز بالعدل والإحسان. فقد زار غلامًا يهوديًا كان مريضًا، ودعاه إلى الإسلام، ولم يعنفه أو يهاجمه، بل عرض عليه دعوته بالحسنى. كما حافظ على عهوده مع غير المسلمين، ولم يبدأهم بعداوة ما لم يبدؤوه هم بها.
السيرة النبوية في أرقى صور التعامل
تتجلى في السيرة النبوية مواقف راقية في التعامل، منها:
-
عفوه عن أهل مكة بعد فتحها رغم ما فعلوه به وأصحابه.
-
تعامله مع المنافقين رغم معرفته بخداعهم، حيث لم يفضحهم حفاظًا على وحدة المجتمع.
-
تعامله مع الأطفال بحنان ورفق، حيث كان يُقبل أحفاده، ويحملهم، ويمازحهم.
التعامل في ظل الأذى
من أبرز صور السمو الأخلاقي ما ورد عن النبي ﷺ في كيفية تعامله مع من آذوه، كما في حديث عائشة رضي الله عنها، حين سُئل النبي ﷺ:
“هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟” فقال: “لقد لقيت من قومك ما لقيت… وإذ جاءني جبريل فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال…”، فرد ﷺ قائلاً: “بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده” (رواه البخاري).
خلاصة القيم في السنة
يمكن إجمال القيم النبوية في التعامل مع الناس في المحاور التالية:
-
التعامل بالعدل والإنصاف
-
الاحترام المتبادل
-
حسن الظن
-
كظم الغيظ
-
تقديم العفو على العقوبة
-
عدم التكبر أو الاستعلاء
-
الإحسان حتى مع المسيئين
المصادر والمراجع
-
صحيح البخاري
-
صحيح مسلم
-
سنن الترمذي
-
سنن أبي داود
-
رياض الصالحين للإمام النووي
-
كتاب الشمائل المحمدية للإمام الترمذي
-
زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم
هذا النهج النبوي في التعامل مع الناس يمثل منظومة أخلاقية متكاملة تُسهم في بناء مجتمع سليم، يقوم على الرحمة والعدل والتعاون، ويغدو نموذجًا يُحتذى به في شتى الميادين.
