أول دار في مكة

عنوان المقال: أول دار بنيت بمكة

تمهيد تاريخي حول مكة ومكانتها

تُعدّ مكة المكرمة من أقدم المدن التي عرفها التاريخ، ومن أكثرها قداسة وأهمية روحية وثقافية، فهي مهد الرسالات ومهبط الوحي، ومركز التوحيد الذي صدع به إبراهيم عليه السلام وأعاد تأسيسه النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وقد اكتسبت مكة هذه المنزلة بفضل احتضانها لبيت الله الحرام، الكعبة المشرفة، التي يزورها المسلمون من جميع أنحاء الأرض. إن كل شبر من مكة يحمل قصة، وكل دارٍ فيها تروي سيرةً، ولعل من أهم هذه الدور وأقدمها على الإطلاق هي الدار التي تُعرف في كتب السيرة باسم دار بني جُرهم، أو في بعض الروايات القديمة باسم دار إسماعيل عليه السلام.

الكعبة المشرفة ونشأة العمران في مكة

قبل الحديث عن أول دار بنيت في مكة، لا بد من التوقف عند بداية الاستيطان البشري حول الكعبة. فقد كانت الكعبة أول بيت وضع للناس لعبادة الله، كما جاء في قوله تعالى:

“إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا” (آل عمران: 96).

وتروي الروايات التاريخية أن أول من استوطن مكة بعد أن كانت أرضاً قاحلة لا ماء فيها ولا زرع، هو نبي الله إبراهيم عليه السلام، الذي أمره الله أن يترك زوجته هاجر وابنه الرضيع إسماعيل في هذا المكان الموحش، حيث فجر الله لهم ماء زمزم، فأقبلت قبيلة جرهم اليمنية للإقامة بجانب هذا المورد المبارك.

دار إسماعيل عليه السلام: البداية العمرانية الأولى

بعد أن كبر إسماعيل عليه السلام وتزوج من جرهمية، بدأت ملامح العمران تظهر تدريجياً. ويُجمع المؤرخون على أن دار إسماعيل عليه السلام التي أقامها لنفسه ولزوجه كانت أول دار سكنية بنيت فعلياً في مكة، أي أول بناء مستقِلّ عن الكعبة لأغراض السكن والعيش. وقد أقيمت هذه الدار قرب بئر زمزم، وكانت بسيطة البناء تتماشى مع الظروف البيئية والمواد المتاحة حينها، كالحجارة والطين.

هذه الدار لم تكن فقط مسكناً، بل كانت نواةً لاستيطان دائم حول الكعبة، ومرتكزاً لبناء مجتمع صغير نما تدريجياً مع قدوم القبائل والأسر إلى جوارها، خاصة من قبيلة جرهم، الذين سمح لهم إسماعيل بالإقامة مقابل السماح لهم بالاستفادة من ماء زمزم.

دار بني جُرهم: الامتداد التاريخي والمعماري

بعد وفاة إسماعيل عليه السلام، تولت جرهم الزعامة في مكة، وشهدت المنطقة توسعاً عمرانياً واضحاً. ومن بين أقدم الدور التي بنيت في هذه المرحلة، كانت دار بني جرهم، والتي وُثقت في العديد من الروايات التاريخية على أنها من أوائل البيوت التي أنشئت في محيط المسجد الحرام.

وقد تميزت دور جرهم ببنائها المتواضع، لكنها كانت منظمة في التخطيط، حيث تم توزيع المنازل بشكل دائري حول الكعبة، مع ترك مساحة مفتوحة للطواف والعبادة. كما أن هذه الدور كانت تُبنى باستخدام الحجارة، مع توظيف تقنيات بدائية في تثبيت الأسقف والأبواب، وكان يُراعى فيها الاتجاه نحو القبلة واحترام حرمة البيت.

انتقال القيادة إلى خُزَاعة وبناء دارهم

بعد ضعف سلطة جرهم في مكة، جاءت قبيلة خزاعة بقيادة عمرو بن لُحي، والتي استولت على مكة، وأسست بدورها مجموعة من الدور التي تميزت بمزيد من الاتساع والتنظيم مقارنة بالدور الجرهُمية. وتُعتبر دار عمرو بن لُحي واحدة من أشهر هذه الدور، وقد كانت مركزاً للسلطة الدينية والإدارية، إذ تحكم من خلالها في شؤون الكعبة وسقاية الحجاج.

قُصي بن كلاب وإعادة تنظيم مكة

مع قدوم قُصي بن كلاب، الجد الأعلى للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، حدثت نقلة نوعية في تخطيط مكة، إذ قام بإعادة توزيع القبائل حول المسجد الحرام، وأسس داراً عرفت بـدار الندوة، والتي تعتبر من أبرز معالم مكة التاريخية. دار الندوة لم تكن مجرد مسكن، بل كانت بمثابة مجلس شورى لقريش، يُتخذ فيها القرار السياسي والاجتماعي، ويُعلن منها الحروب والعهود، ويُجهّز منها الحجيج.

وهكذا تحولت مكة من مجرد بيوت متناثرة حول الكعبة إلى مدينة ذات طابع اجتماعي وسياسي متكامل، وكان ذلك بداية لتكوين النسيج المدني الذي استمر إلى عهد النبي عليه الصلاة والسلام.

الجدول الزمني لتطور الدور في مكة

أهمية دار إسماعيل في الوعي الديني والتاريخي

الدار الأولى التي بناها إسماعيل عليه السلام تحتل مكانة رمزية كبيرة، فهي تمثل أولى أشكال الاستقرار البشري في منطقة مقدسة باركها الله، وكان من رحمها ولدت أولى ملامح المجتمع المكي التوحيدي. وقد ارتبطت هذه الدار في المرويات الإسلامية بالقيم الإبراهيمية من التوكل والإيمان والتضحية.

كما أن ارتباط موقع هذه الدار ببئر زمزم والكعبة يجعلها ذات طابع روحاني خاص، وكثير من الحجاج كانوا إلى وقت قريب يحرصون على زيارة المواضع التي يُعتقد أن دار إسماعيل كانت بها.

تطور العمارة السكنية في مكة حتى الإسلام

مع مرور الزمن وتزايد السكان وتغير أنماط العيش، بدأت بيوت مكة تأخذ طابعاً أكثر تعقيداً، حيث استُخدمت المواد المحسنة مثل الخشب المستورد من اليمن والحجارة المُقطّعة من جبال مكة. وأصبح للمنازل طوابق، وأفنية داخلية، ونوافذ مشبكة تسمح بالتهوية، مع الحفاظ على الخصوصية.

وكانت الأسر الثرية من قريش، مثل بني أمية وبني مخزوم، تملك دوراً فاخرة مقارنة بالدور الشعبية لبقية القبائل، وقد كانت كل دار تُعبّر عن الوضع الاجتماعي والسياسي لساكنيها، كما ظهرت تخصصات جديدة مثل الحرفيين والنجارين وبُناة الأسقف.

الحفاظ على الدور التاريخية في مكة اليوم

رغم التطور العمراني الهائل الذي شهدته مكة في العصر الحديث، وقيام مشاريع توسعة الحرم المكي الكبرى، إلا أن هناك جهوداً بحثية وتاريخية تهدف إلى توثيق وتحديد مواقع الدور القديمة في مكة، خاصة تلك التي ارتبطت بمسيرة الأنبياء والتاريخ الإسلامي المبكر.

وقد قامت بعض الجهات الأكاديمية بالتنقيب عن مواضع الدور الأولى، مثل دار إسماعيل ودار الندوة، باستخدام الخرائط القديمة والروايات الشفهية، سعيًا للحفاظ على هذا التراث الغني من الاندثار في ظل التوسع الحضري المتسارع.

الخاتمة: الدار الأولى والبدايات المقدسة

تشكل دار إسماعيل عليه السلام بداية عمرانية وروحية لتاريخ مكة المكرمة، فهي لم تكن مجرد مأوى بل رمز لبداية مجتمعية رسخت قواعد التوحيد والاستقرار في أرض الحرم. ومن هذه الدار انطلقت أولى ملامح الحضارة الإسلامية التي توسعت فيما بعد في شبه الجزيرة العربية، وتُوّجت بميلاد النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي خرج من أحشاء مكة ليغير وجه التاريخ الإنساني. إن قصة أول دار في مكة ليست فقط حكاية بناء، بل هي مرآة لتاريخ الأمة، وتجسيد للصلة الوثيقة بين الأرض والوحي والإنسان.

المراجع:

1. ابن هشام، السيرة النبوية.

2. الأزرقي، أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار.