أكبر الأديان في الصين

أكبر الأديان في دولة الصين: الأديان التقليدية، التحولات المعاصرة، والهوية الروحية

تمثل الصين إحدى أقدم الحضارات المستمرة في التاريخ البشري، حيث يعود تاريخها الديني والثقافي إلى آلاف السنين، مما يجعل من فهم الأديان في الصين مسألة معقدة ومتعددة الأبعاد. فالصين ليست فقط دولة ذات كثافة سكانية هائلة، بل إنها أيضًا موطن لمزيج فريد من الأديان التقليدية والمعتقدات الشعبية والفلسفات التي تعايشت وتداخلت على مدار العصور. وبالرغم من الطابع العلماني الذي تتبناه الدولة رسميًا في الوقت الراهن، فإن الممارسات الدينية والثقافية لا تزال تشكل جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية لملايين الصينيين.

في هذا المقال، سيتم استعراض الأديان الرئيسية التي تمارس في الصين، مع التركيز على أصولها، مدى انتشارها، علاقتها بالهوية الصينية، والموقع الذي تحتله في النظام الاجتماعي والسياسي المعاصر.

الخلفية الديموغرافية والدستورية

تُعد جمهورية الصين الشعبية من الناحية الرسمية دولة علمانية، حيث ينص دستورها على حرية العقيدة الدينية، ولكن في إطار قيود تنظيمية صارمة. لا تعترف الحكومة الصينية سوى بخمس ديانات رسمية: البوذية، الطاوية، الإسلام، الكاثوليكية، والبروتستانتية. وفي الوقت نفسه، هناك طيف واسع من المعتقدات الشعبية والفلسفات غير الدينية التي تُمارَس وتُصنَّف أحيانًا خارج إطار “الدين” بالمعنى الغربي للكلمة، مثل الكونفوشيوسية والممارسات التقليدية التي تُعد أحيانًا طقوسًا ثقافية أكثر منها ديانات.

1. البوذية في الصين

تُعد البوذية أكبر ديانة منظمة في الصين من حيث عدد الأتباع والممارسين، وقد دخلت الصين في القرن الأول الميلادي قادمة من الهند عبر طرق الحرير. وقد عرفت ازدهارًا كبيرًا خلال سلالات مثل تانغ وسونغ ومينغ، حيث تم إنشاء آلاف المعابد وانتشرت النصوص البوذية المترجمة إلى اللغة الصينية.

البوذية في الصين اليوم تتمثل بثلاثة تيارات رئيسية:

• البوذية الصينية (بوذية الهان): وهي الشكل الأكثر انتشارًا، وتجمع بين عناصر من المدارس المهايانية المختلفة مثل مدرسة تشان (التي تطورت لاحقًا إلى الزن في اليابان).

• البوذية التبتية: تمارس بشكل رئيسي في التبت والمناطق المحيطة بها مثل منغوليا الداخلية، وقد اكتسبت أهمية سياسية خاصة في سياق العلاقة بين الدولة الصينية وحكومة التبت في المنفى.

• البوذية الطاوية: وهي شكل من التداخل بين الطاوية والبوذية، حيث تميل الممارسات الدينية إلى التزاوج بين تعاليم الفلسفتين.

وفقًا لتقديرات غير رسمية، فإن أكثر من 250 مليون شخص في الصين يمارسون البوذية بدرجات متفاوتة، مما يجعلها الدين الأكبر من حيث الممارسة الطقسية.

2. الطاوية: الدين الفلسفي والروحي الأصيل

الطاوية، أو “داو جيا” (道教)، هي ديانة وفلسفة نشأت في الصين القديمة على يد الفيلسوف لاو تسي، مؤلف “الطاوتي تشينغ”، وتُعد من أكثر التعبيرات الروحية تميزًا في الثقافة الصينية. تختلف الطاوية عن البوذية بتركيزها على الانسجام مع “الطاوية” أو “الطريق”، والسعي لتحقيق التوازن مع قوى الطبيعة والكون.

تتجلى الطاوية في بعدين رئيسيين:

• الطاوية الفلسفية: تركز على الحكمة، البساطة، والعيش في تناغم مع الطبيعة.

• الطاوية الدينية: تمارس طقوسًا دينية تشمل عبادة الآلهة، الطقوس التطهيرية، الطب التقليدي، والخيمياء الروحية.

لا توجد إحصاءات دقيقة لأعداد الطاويين، لأن العديد من الصينيين يمارسون الطقوس الطاوية جنبًا إلى جنب مع ديانات ومعتقدات أخرى، ولكن يقدر عددهم بما يزيد عن 170 مليون شخص، لا سيما في مناطق مثل سيشوان، فوجيان، وتايوان (رغم استقلالها السياسي، إلا أن الثقافة الدينية فيها تعكس امتدادًا للتقاليد الصينية).

3. الكونفوشيوسية: فلسفة اجتماعية أم ديانة؟

الكونفوشيوسية، رغم الجدل المستمر حول تصنيفها كديانة أو فلسفة أخلاقية، تُعد أحد أعمدة الهوية الثقافية الصينية. أسسها كونفوشيوس (551–479 ق.م)، وتركز على الانضباط الأخلاقي، الاحترام للأسرة والسلطات، والتعليم، والولاء الاجتماعي.

في فترات عديدة من التاريخ، كانت الكونفوشيوسية تُستخدم كأداة رئيسية لتكوين نخبة الدولة عبر نظام امتحانات الخدمة المدنية. وقد اندمجت في الحياة اليومية الصينية إلى درجة يصعب معها فصلها عن باقي المعتقدات والممارسات الثقافية.

ورغم قمعها خلال الثورة الثقافية، عادت الكونفوشيوسية إلى الواجهة في العقود الأخيرة، وتدعم الحكومة بعثها كجزء من “القوة الناعمة” الصينية لتعزيز الأخلاق والانتماء الوطني، دون اعتبارها ديانة رسمية بالمعنى التقليدي.

4. الإسلام في الصين

الإسلام في الصين له تاريخ طويل يمتد إلى أكثر من 1300 عام، وقد دخل البلاد عبر التجار العرب والفرس خلال عهد أسرة تانغ. ينتشر المسلمون في الصين بين عدة مجموعات عرقية، أبرزها:

• الهوي: وهم أكبر مجموعة مسلمة في الصين، ويتحدثون اللغة الصينية ويشبهون الهان في نمط الحياة.

• الأويغور: وهم سكان إقليم شينجيانغ ويشكلون أقلية عرقية ناطقة بالتركية، لهم طابع ثقافي مميز ويواجهون تحديات سياسية واجتماعية كبيرة.

تُقدَّر أعداد المسلمين في الصين بين 20 إلى 30 مليون شخص، وتتوزع مساجدهم على أغلب المقاطعات، مع وجود أقدم مسجد في الصين (مسجد هوايشينغ) في مدينة قوانغتشو، والذي يعود إلى القرن السابع الميلادي.

5. المسيحية في الصين: البروتستانتية والكاثوليكية

المسيحية هي من الديانات المعترف بها رسميًا، وتنقسم إلى:

• البروتستانتية: شهدت نموًا كبيرًا منذ السبعينيات، خاصة في الأرياف والمناطق الصناعية. غالبًا ما تُمارس في كنائس منزلية غير رسمية بجانب الكنائس المعترف بها من الدولة.

• الكاثوليكية: موجودة منذ القرن السادس عشر عبر البعثات اليسوعية، وتخضع لقيود أكثر صرامة، لا سيما في ما يتعلق بالسلطة الدينية للبابا مقابل الكنيسة الصينية “الوطنية”.

يُقدر عدد المسيحيين في الصين بما بين 40 إلى 70 مليون نسمة، مع توقعات بنمو مستمر في العقود القادمة.

6. الديانات والمعتقدات الشعبية

تشكل الديانات الشعبية جزءًا لا يتجزأ من الحياة الروحية في الصين. وتتمثل في ممارسات عبادة الأسلاف، الإيمان بالأرواح المحلية، استخدام الفينغ شوي، واللجوء إلى العرافة والتنجيم. كما تنتشر طقوس تقليدية مرتبطة بمواسم الزراعة، والمناسبات الأسرية، ومهرجانات مثل عيد الربيع ومهرجان منتصف الخريف.

هذه المعتقدات لا تُصنَّف ضمن ديانة رسمية لكنها تُمارس من قبل مئات الملايين من الأشخاص، وتشكل نسيجًا غنيًا يدمج العناصر الدينية بالفولكلور المحلي.

الجدول التالي يلخص أهم الأديان والمعتقدات في الصين وعدد أتباعها التقديري:

التحولات المعاصرة والتحديات

شهدت الصين تحولات كبيرة في المشهد الديني منذ السبعينيات بعد انتهاء الثورة الثقافية، حيث سُمح بإعادة فتح المعابد والكنائس والمساجد. ومع الانفتاح الاقتصادي، ظهرت موجة جديدة من الاهتمام بالدين، لا سيما بين الأجيال الشابة التي تبحث عن هوية روحية وثقافية في ظل تسارع الحداثة.

في المقابل، تفرض الدولة رقابة صارمة على المؤسسات الدينية، خاصة تلك التي تُ perceived بأنها ذات ارتباطات خارجية أو تشكل تهديدًا للوحدة القومية، مثل الإسلام في شينجيانغ أو الكاثوليكية المرتبطة بالفاتيكان.

الهوية الدينية في الصين المعاصرة

الهوية الدينية في الصين معقدة للغاية، حيث لا يميل غالبية السكان إلى الانتماء الحصري لدين واحد. بل يُمارَس الدين كمجموعة من الطقوس والعادات المتداخلة، تجمع بين الطاوية، البوذية، الكونفوشيوسية، والمعتقدات الشعبية. ويُطلق على هذا النهج أحيانًا “الثالوث الصيني” أو “السينكريتزم”، وهو ما يميز المشهد الديني الصيني عن أنماط الانتماء الديني الصارم في مجتمعات أخرى.

الخلاصة

تشكل الصين لوحة فسيفسائية مذهلة من الأديان والمعتقدات الروحية، تعكس تاريخًا عريقًا من التداخل بين الدين، الفلسفة، والثقافة. ورغم أن الدولة تتبنى علمانية رسمية، فإن الواقع الاجتماعي والثقافي مليء بالتعبيرات الدينية التي تتنوع بين الطقوس التقليدية والمذاهب الكبرى. ويبدو أن المشهد الديني الصيني سيستمر في التطور، مستجيبًا لتحولات الداخل وارتباطه المتنامي بالعالم الخارجي.

المراجع:

1. Yang, Fenggang. Religion in China: Survival and Revival under Communist Rule. Oxford University Press, 2012.

2. Palmer, David A. The Religious Question in Modern China. University of Chicago Press, 2011.