رواية “آخر مرة رأيت فيها أمي” للكاتبة أرلين جاي تشاي هي عمل أدبي رائع يستكشف العلاقات المعقدة بين الأجيال المختلفة من النساء في العائلة الواحدة. من خلال سرد قصصي غنائي ومؤثر، تنقل لنا تشاي حكاية عائلة تعيش بين الفلبين وأستراليا، كاشفةً أسراراً مخبأة عن الماضي، وأحداثاً كانت مغطاة بطبقات من الصمت.
تبدأ القصة بتلقي كاريداد، المرأة الفلبينية التي تعيش في سيدني بأستراليا، رسالة غير متوقعة من والدتها ثيلما. هذه الرسالة تعد أول اتصال من نوعه منذ سنوات، مما يثير دهشة كاريداد، خصوصاً أن والدتها لم تكن تكتب أبداً. تأتي هذه الرسالة مع طلب عاجل من والدتها لزيارة الوطن، ليس بسبب مرض أو مشكلة طارئة، بل للكشف عن سر كبير ظل يثقل كاهلها لسنوات طويلة.
كاريداد، التي توقفت منذ فترة طويلة عن طرح الأسئلة حول ماضي عائلتها نتيجة لصمت والدتها المستمر، تجد نفسها مجبرة على مواجهة ماضيها واكتشاف الحقائق المخبأة. خلال زيارتها، تُستَقبَل بروايات متباينة من والدتها ثيلما، وعمتها إيما، وابنة عمها ليجايا. كل واحدة من هؤلاء النساء تسرد جزءًا من الحكاية بصوتها الخاص، مما يشكل نسيجاً متكاملاً من القصص التي تكشف عن تاريخ عائلة مليء بالألم والأمل والمآسي التي عايشتها خلال سنوات الاحتلال الياباني القاسي للفلبين.
تدور الرواية حول فكرة الهوية الثقافية المولدة من خليط التأثيرات الإسبانية والصينية والفلبينية، وتبرز أهمية الحقيقة كوسيلة للشفاء والتصالح مع الذات والماضي. من خلال حكايات النساء الثلاث، تتكشف لكاريداد – وللقارئ – تفاصيل مؤلمة وسعيدة عن حياة عائلتها، مما يساعدها في استعادة جزء من هويتها التي فقدتها.
تُبرز الرواية الأثر العميق للحرب على الأفراد والمجتمعات، وكيف تظل آثارها قائمة حتى بعد انتهائها بسنوات. من خلال الشخصيات النسائية القوية، تقدم أرلين تشاي نظرة عميقة على التضحيات والصراعات التي خاضتها النساء في ظل الظروف القاسية، وكيف أنهن تحملن الأعباء بصمت، محافظات على الأسرار لحماية أحبائهن.
“آخر مرة رأيت فيها أمي” ليست مجرد رواية عن الأسرار العائلية، بل هي دراسة متأنية في العلاقات الإنسانية المعقدة، واستكشاف لكيفية تعامل النساء مع الأزمات والأوقات الصعبة. تشاي بقدرتها الفذة على السرد، تجعل من هذه الرواية تجربة عاطفية عميقة للقارئ، حيث يأخذنا السرد إلى أماكن لم نزورها من قبل، ويكشف لنا عن جوانب من التاريخ والثقافة الفلبينية قد تكون مجهولة للكثيرين.
تتميز الرواية بالأسلوب الأدبي الراقي، حيث تُبرز تشاي مهاراتها في نقل المشاعر والوصف الدقيق للشخصيات والمواقف. هذا يجعل من السهل على القارئ أن يتواصل مع الشخصيات ويشعر بعمق تجاربهم وأحاسيسهم.
تعد “آخر مرة رأيت فيها أمي” إضافة متميزة إلى الأدب التاريخي والخيالي، حيث تجمع بين الحكايات الشخصية والتاريخية بشكل متقن، مما يجعلها قراءة ممتعة ومثرية في الوقت ذاته. من خلال الكشف عن الأسرار العائلية والأحداث التاريخية، تقدم الرواية رؤية متكاملة عن تأثير الماضي على الحاضر، وكيف يمكن للحقائق المخبأة أن تكون مفتاحاً لفهم الذات والعلاقات الإنسانية بشكل أعمق.
في النهاية، تؤكد أرلين تشاي من خلال هذا العمل أن قوة الحقيقة لا تكمن فقط في معرفتها، بل في شجاعة مواجهتها وقبولها. هذا ما يجعل من “آخر مرة رأيت فيها أمي” رواية تستحق القراءة والتأمل، حيث تأخذنا في رحلة عاطفية وفكرية لا تُنسى.