آخر سورة نزلت بمكة

آخر سورة نزلت بمكة

إن السور القرآنية التي نزلت في مكة المكرمة تمثل مرحلةً محوريةً في تاريخ الدعوة الإسلامية، حيث كانت تعكس التحديات والظروف التي واجهها النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه في تلك الفترة العصيبة من حياتهم. هذه السور كانت تتناول قضايا الإيمان بالله، وضرورة الصبر على الأذى، وتحقيق الاستقامة في العبادة، فضلاً عن توجيه الأمة الإسلامية نحو تحقيق العزة الإيمانية في مواجهة كفر قريش وأعداء الدعوة. ومن بين هذه السور العديدة، برزت السورة الأخيرة التي نزلت في مكة، وهي سورة الطور، التي حملت رسائل قوية تجسد معاني الصبر واليقين.

نزول السورة في مكة المكرمة

تعتبر سورة الطور من السور المكية التي نزلت في المرحلة المتأخرة من فترة النبي صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة. كان هذا النزول في فترة اشتد فيها التعنت من قريش ضد النبي صلى الله عليه وسلم، حيث عانى المسلمون من أنواع كثيرة من الاضطهاد، وكان المؤمنون بحاجة إلى أن يجدوا السكينة في دينهم، ويثابروا على صبرهم رغم ما يلقون من أذى.

يقول العلماء أن سورة الطور هي آخر السور التي نزلت بمكة قبل الهجرة إلى المدينة، لذلك فهي تعد بمثابة رسالة ختامية من الله تعالى للمؤمنين في مكة، حيث دعتهم إلى التمسك بالإيمان وطمأنتهم بوعد الله سبحانه وتعالى بالنصر والفرج، مع التذكير بعواقب الذين كذبوا بالدعوة الإيمانية.

مضمون السورة وموضوعاتها

سورة الطور مكونة من 49 آية، وهي من السور المكية التي تتناول قضايا التوحيد والبعث والجزاء، وقد امتازت بالتأكيد على قوة الله وقدرته اللامحدودة، مما يعزز الإيمان بالقضاء والقدر ويرسخ الطمأنينة في قلب المسلم. بداية السورة تذكر مشهدًا من مشاهد الكون، حيث يُقسم الله سبحانه وتعالى بالطور والكتب السماوية، ويستفتح ذلك بالآية الأولى التي تقول:

“وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ” (الطور: 1).

القسم في السورة

القسم في القرآن الكريم يأتي ليدل على أهمية الشيء المقسم به، وفي هذه السورة، بدأ الله تعالى قسمه بالطور، وهو جبل كبير في سيناء، يقسم الله به على عظمته وقدرته. وتُعد هذه الآية بمثابة تمهيد لما سيتبعها من آيات تشير إلى عظمت الله تعالى وقوته، ثم يأتي القسم بالكتاب المسطور، وهو القرآن الكريم الذي أنزل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

هذا القسم يُظهر لنا أن الله سبحانه وتعالى يقرن بين مظاهر عظمته في الكون وبين كتابه المقدس الذي هو أساس هداية الناس. كما أن السورة تتحدث عن عواقب المكذبين والمعارضين لهذا الكتاب.

تنبيه المكذبين وعواقبهم

تستعرض السورة في العديد من آياتها مصير المكذبين بالآيات الإلهية، حيث تذكرهم بأنهم سيقفون أمام الله تعالى للحساب يوم القيامة. تُعرض السورة كذلك تفاصيل عن موقفهم في الآخرة وكيف سيكون حالهم في يوم القيامة إذا استمروا في تكذيبهم. تظهر هذه الآيات كنوع من التحذير القاسي لمن يصرون على الجحود برغم البراهين الواضحة من الكتاب والسنّة.

“إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ لِكَيْ نَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ” (الطور: 43).

تُشير الآية هنا إلى غرق قوم نوح وكيف نجّى الله المؤمنين من الغرق، وهو ما يعكس رحمة الله وعنايته بأتباعه. كما تُظهر السورة قسوة ما سيواجهه المكذبون من عذاب وتهديدات شديدة على رفضهم للحق.

الحديث عن الجنة والنار

تُظهر السورة كذلك الوعيد للذين كذبوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وتحذرهم من العذاب العظيم في الآخرة. في المقابل، تذكر المؤمنين بعواقب إيمانهم وثباتهم على الدين، حيث تذكر السورة نعيم الجنة وجزاء المؤمنين الذين يتبعون الحق ويسيرون في طريق الهداية.

“إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْوَحْيِ وَرَسَلُوا الرُّسُلَ لِيَنْجُوا” (الطور: 45).

الآية هذه تدل على كيفية أن أتباع الله ورسله هم الذين سيجدون في الآخرة النعيم الأبدي، في مقابل الذين اختاروا طريق الضلال.

الطمأنينة للمؤمنين

في قلب السورة نجد تشجيعًا للمؤمنين، وتوجيهًا لهم للاستمرار في صبرهم على الدعوة رغم الأذى الذي يلاقونه. تقول السورة:

“إِنَّا كَانَ وَعْدُ رَبِّكَ مَفْعُولًا” (الطور: 47).

هذه الآية تذكر المؤمنين بوعد الله بالنصر والفرج، ما يعزز في نفوسهم الأمل ويشجعهم على الثبات في مواجهة التحديات.

استجابة السورة للواقع المكي

ما يميز سورة الطور عن غيرها من السور هو أنها نزلت في وقتٍ كان المسلمون في مكة يعانون فيه من قسوة الكفار ومن تعنتهم ضد الدعوة الإسلامية. كانت السورة بمثابة دعوة للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بالصبر على البلاء واليقين بأن الله سبحانه وتعالى سيرتفع بهم في النهاية ويمنحهم النصر على أعدائهم.

ما يمكن أن نتعلمه من سورة الطور

تعد سورة الطور واحدة من السور التي تحمل في طياتها دعوة عظيمة للتحمل، والإيمان المطلق بالحق، مع ضرورة تحمل الأذى في سبيله. بالإضافة إلى ذلك، تتطرق السورة إلى قضايا العدل الإلهي في جزاء المكذبين، حيث تظهر عواقب الطغاة والجحود، وتبين كيف أن الله سبحانه وتعالى يجزى المؤمنين بالمكافأة الكبرى التي لا تعد ولا تحصى.

إن هذا المعنى العميق الذي تحمله السورة يجعلها ذات أهمية خاصة للمؤمنين، إذ تشجعهم على الثبات على الحق وعدم الاستسلام للضغوط التي قد يتعرضون لها. كما أنها تذكرهم بأن النهاية تكون للمتقين والصالحين، وأن الله سبحانه وتعالى هو الأعلم بما سيحدث لكل فرد، وأنه لا يضيع أجر المؤمنين الذين صبروا واحتسبوا.

خاتمة

سورة الطور، التي تعد آخر السور المكية التي نزلت قبل الهجرة، هي بمثابة رسالة إلهية للمؤمنين في مكة لتثبيت قلوبهم وحثهم على الاستمرار في طريق الدعوة رغم كل الصعاب التي كانوا يواجهونها. تعكس السورة قوة الله وقدرته اللامحدودة وتؤكد على جزاء المكذبين في الآخرة. كما تحفز السورة المؤمنين على الثبات في دينهم وتطمئنهم بأن الله تعالى معهم في كل خطوة على طريق الحق.