وهم التنفيس عن الغضب

عنوان المقال: وهم التنفيس عن الغضب

مقدمة

لطالما ارتبط مفهوم “التنفيس عن الغضب” في الثقافة الشعبية والفكر النفسي السائد بفكرة مفادها أن التعبير عن الغضب بشكل مباشر أو تفريغه بالصراخ أو ضرب الوسائد أو تحطيم الأشياء يساهم في تخفيف التوتر والانفعال، وبالتالي يؤدي إلى تهدئة النفس واستعادة التوازن الانفعالي. وقد استُخدمت هذه النظرية لعقود طويلة كأساس لتقنيات عديدة في العلاج النفسي والتربية والتعامل مع الذات. غير أن الأبحاث الحديثة، إلى جانب الفهم المتقدم لطبيعة المشاعر وآليات عمل الدماغ، تطرح شكوكاً جدية حول هذه النظرية، بل وتظهر أدلة على أن التنفيس عن الغضب قد يكون مضراً أكثر منه نافعاً.

الجذور الفكرية لمفهوم التنفيس

تعود فكرة التنفيس إلى نظرية “التحليل النفسي” التي أسسها سيغموند فرويد، حيث رأى أن المشاعر المكبوتة كالعدوان والغضب إذا لم يتم إخراجها فإنها تتحول إلى توتر نفسي وضغط داخلي يؤثر سلباً على الفرد. هذه الفكرة استندت إلى ما يشبه تشبيه النفس البشرية بقدر ضغط يجب تفريغه بين الحين والآخر. وبهذا التصور، يصبح الصراخ أو تحطيم الأشياء أو حتى الحديث العدواني شكلاً من أشكال “العلاج الوقائي”.

غير أن هذا التشبيه تبسيطي وغير دقيق لآلية الغضب، ويغفل جوانب هامة تتعلق بكيفية نشوء الانفعال وتطوره وتأثيره على السلوك العصبي والنفسي والبيولوجي.

أبحاث علم النفس والسلوك: الدحض التجريبي لفكرة التنفيس

منذ الثمانينيات، بدأت الدراسات السلوكية والفيزيولوجية في تفكيك هذه الفكرة. أحد أبرز هذه الأبحاث قاده الطبيب النفسي الأمريكي براد بوشمان، والذي أجرى تجارب متعددة للتحقق من فاعلية التنفيس عن الغضب. في إحدى تجاربه، طُلب من المشاركين الذين تعرضوا للإغضاب أن يفرغوا غضبهم بضرب كيس ملاكمة، بينما طُلب من مجموعة أخرى أن تجلس بهدوء أو تمارس نشاطاً هادئاً مثل القراءة. النتائج كشفت أن المجموعة التي تنفّست عن غضبها بالعنف اللفظي أو الجسدي شعرت بزيادة في العدوانية، في حين أن المجموعة الأخرى أظهرت انخفاضاً في مستويات الغضب والانفعال.

تشير هذه النتائج إلى أن التنفيس لا يفرغ الغضب كما كان يُعتقد، بل يعزز من شبكات العدوان في الدماغ ويعيد تأكيد السلوك الغاضب، أي أن التنفيس يعمل بمثابة تدريب عقلي على الغضب وليس حلاً له.

الدماغ والغضب: كيف يتم تشكيل المسارات العصبية؟

لفهم أعمق، من المهم العودة إلى ما يعرف بـ”اللدونة العصبية” (Neuroplasticity)، وهي قدرة الدماغ على تشكيل الروابط العصبية وتثبيتها استجابةً للتكرار. عندما يُفرغ الإنسان غضبه بالصراخ أو العنف أو التهجم اللفظي، فإن الدماغ يتعلّم أن هذا النمط من الاستجابة هو المقبول أو المجدي في حالات الغضب. وكلما كرر هذا الفعل، زادت قوة هذه الروابط العصبية، مما يجعل العودة إلى هذا النمط أسهل في المستقبل. وبمرور الوقت، يتحول الغضب إلى استجابة شرطية تلقائية تترسخ في شخصية الفرد وتزيد من توتره الداخلي وتؤثر على علاقاته وسلوكه الاجتماعي.

الفرق بين التنفيس والتنظيم العاطفي

من الضروري التمييز بين التنفيس عن الغضب وتنظيم الغضب. فبينما يشجع التنفيس على التعبير الانفعالي دون تأمل أو ضبط، يقوم التنظيم العاطفي على التعامل الواعي مع المشاعر، والقدرة على تفسيرها، وتغييرها بطرق صحية. التنظيم العاطفي لا يعني كبت المشاعر أو إنكارها، بل احتواؤها والتعبير عنها في الوقت والمكان المناسبين، بطريقة تحفظ كرامة الفرد وسلامه الداخلي وتضمن علاقاته بالآخرين.

النتائج السلبية للتنفيس عن الغضب

يشمل الضرر الناتج عن ممارسة التنفيس عدة مستويات:

1. تعزيز العدوانية: كما سبق وأظهرت الدراسات، التنفيس يعمل على تقوية الاستجابة العدوانية، مما يجعل الشخص أكثر استعداداً للعنف اللفظي أو الجسدي مستقبلاً.

2. تدهور العلاقات الاجتماعية: كثرة التعبير الانفعالي غير المضبوط تؤدي إلى فقدان السيطرة على الأعصاب وتؤثر على العلاقات الشخصية والمهنية، وتخلق صورة سلبية عن الفرد لدى الآخرين.

3. التعلق بالمشاعر السلبية: الشخص الذي يعتمد على التنفيس كوسيلة لمعالجة غضبه يظل عالقاً في دوامة الانفعال، فلا يخرج من دائرة الغضب إلى الهدوء، بل ينتقل من انفجار إلى آخر.

4. إرهاق الجهاز العصبي: كثرة الانفعالات المفاجئة والعنيفة تؤثر على الجهاز العصبي المركزي، وترفع من مستويات هرمونات التوتر كالكورتيزول، ما ينعكس على الصحة العامة.

5. انخفاض تقدير الذات: بعد نوبات الغضب المتكررة، يشعر الشخص أحياناً بالذنب أو الخجل، ما ينعكس سلباً على صورته الذاتية ويزيد من الإحباط.

نماذج بديلة وأكثر فعالية للتعامل مع الغضب

تقدم المدارس الحديثة في علم النفس والطب السلوكي أدوات فعالة وعملية لتنظيم الغضب بدل التنفيس عنه. من أبرزها:

1. تقنيات التنفس العميق

التنفس البطني العميق يبطئ من نشاط الجهاز العصبي الودي (Sympathetic Nervous System)، والذي يُنشط في حالات الغضب. التنفس البطيء والعميق يعيد التوازن، ويقلل من حدة الانفعال.

2. إعادة البناء المعرفي

يعني هذا تغيير طريقة التفكير حول الموقف الذي تسبب في الغضب. مثلاً، بدلاً من رؤية تصرف الآخرين على أنه عدواني، يمكن تأطيره على أنه سوء فهم أو تصرف ناتج عن ضغوط لديهم.

3. الكتابة التعبيرية

كتابة المشاعر على الورق تساعد في تحليل الغضب وتفريغه بطريقة عقلانية وآمنة، دون الحاجة إلى تعبيرات عدوانية أو صاخبة.

4. الرياضة والحركة البدنية

الرياضة وسيلة فعالة لتفريغ التوتر الجسدي الناتج عن الغضب، حيث تساهم في تحفيز هرمونات الراحة مثل الإندورفين وتحسن الحالة المزاجية.

5. الوعي التام (Mindfulness)

ممارسة التأمل أو الوعي الكامل يساعد على تقوية قدرة الإنسان على مراقبة مشاعره دون أن ينغمس فيها، مما يمنح فرصة للتحكم الواعي قبل التصرف.

جدول المقارنة بين التنفيس والتنظيم العاطفي

الخلاصة

الاعتقاد السائد بأن التنفيس عن الغضب وسيلة صحية لتخفيف الانفعال هو اعتقاد مضلل لا يستند إلى حقائق علمية، بل على العكس، قد يؤدي إلى نتائج عكسية تنعكس سلباً على النفس والعلاقات والصحة الجسدية والعقلية. الطريق الحقيقي للتعامل مع الغضب لا يكون من خلال إطلاق العنان للمشاعر بلا ضوابط، بل من خلال بناء مهارات الوعي، وتنظيم الذات، وتعلم كيفية تحويل المشاعر السلبية إلى فرص للنضج والنمو الداخلي.

المراجع:

• Bushman, B. J. (2002). Does venting anger feed or extinguish the flame? Personality and Social Psychology Bulletin, 28(6), 724–731.

• Tavris, C. (1989). Anger: The misunderstood emotion. New York: Simon & Schuster.