تعامل عمر بن الخطاب مع أهل بيت المقدس
يعدُّ الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أبرز الشخصيات الإسلامية في تاريخ الأمة، ليس فقط لما حققه من انتصارات في المعارك ولكن أيضاً لما كان عليه من رؤية حكيمة في التعامل مع مختلف الشعوب والأمم. واحدة من أبرز ملامح حكمه كانت سياسة التسامح والعدل، وهو ما تجسد بوضوح في تعامله مع أهل بيت المقدس عند فتحها في عام 637م.
إن فتح بيت المقدس على يد الخليفة عمر بن الخطاب كان لحظة فارقة في التاريخ الإسلامي، ليس فقط بسبب الأهمية الدينية للمدينة التي تعد ثالث أقدس الأماكن في الإسلام، ولكن أيضًا بسبب الطريقة التي تم بها التعامل مع أهلها، سواء من اليهود أو المسيحيين. ويُعدّ هذا الفتح من أرقى صور التعايش والتسامح بين الأديان في العصور الإسلامية.
الخلفية التاريخية لفتح بيت المقدس
بعد سلسلة من المعارك والفتوحات التي حققتها جيوش المسلمين بقيادة الفاروق عمر بن الخطاب في بلاد الشام، كان الهدف النهائي هو الوصول إلى بيت المقدس، المدينة التي كانت تحت حكم البيزنطيين. وبعد معركة حاسمة في أجنادين، استطاع المسلمون إحكام سيطرتهم على معظم الأراضي الشامية. وكان الفتح الكبير لبيت المقدس من أبرز اللحظات التاريخية في تلك الحملة.
كانت المدينة في تلك الفترة تحت حكم البيزنطيين، وقد تبادل المسلمون مع المسيحيين هناك رسائل تفاوضية حول تسليم المدينة. في البداية، كان المفاوضون البيزنطيون يرغبون في تسليم المدينة إلى الخليفة شخصياً، لما كانوا يسمعون عن عدله وورعه، وأيضًا عن تعامله السامي مع أهل الذمة.
بيعة أهل المدينة والشرط العمراني
كان من المقرر أن يتم تسليم المدينة في أوقات عديدة، ولكن كان دخولها يعتمد على شرط واضح من قبل الخليفة عمر بن الخطاب، وهو أن يدخل المدينة بنفسه. فبعث عمر بن الخطاب إلى أهل القدس رسالة يوضح فيها شروط التسليم، مؤكداً أن المسلمين لن يقيموا في المدينة إلا بعد إتمام بيعة الشروط المعروفة والتي تشمل حقوق أهلها.
وعندما وصل عمر بن الخطاب إلى المدينة، طلب أن يلتقي بممثلين عن المسيحيين واليهود للتفاوض معهم بشأن تسليم المدينة بأمان. ووافق عمر بن الخطاب على السماح لهم بالاحتفاظ بكنائسهم ومعابدهم دون التدخل فيها، الأمر الذي يبرز جانباً مهماً من تسامحه واحترامه لأهل الكتاب.
“العهدة العمرية”
أهم ما يميز تعامل عمر بن الخطاب مع أهل بيت المقدس هو “العهدة العمرية” التي قدمها لأهل المدينة، وهي وثيقة تاريخية تشهد على سياسة التسامح والعدالة التي تبناها في تلك الفترة. العهدة العمرية هي اتفاق وقع عليه الخليفة عمر بن الخطاب مع أهل القدس، وكان يشمل عدة شروط رئيسية، أبرزها:
-
حماية الأرواح والممتلكات: نص العهد على أن دماء أهل المدينة وأموالهم في أمان، وأنه لن يتم الاعتداء عليهم بأي حال من الأحوال.
-
حرية ممارسة الديانة: أُعطِي أهل بيت المقدس الحق في ممارسة عباداتهم بحرية، سواء كانوا مسيحيين أو يهوداً. كما أكد عمر على عدم التدخل في أماكن العبادة الخاصة بهم.
-
عدم إجبار أهل الكتاب على اعتناق الإسلام: وفقاً للعهدة العمرية، لم يُجبر أهل المدينة على اعتناق الإسلام، بل يُعترف بحقهم في اتباع ديانتهم الخاصة، وهو ما يعكس روح التسامح الديني.
-
حماية الكنائس والمعابد: أُعطِي ضمان بأن الكنائس والمعابد لن يتم تدميرها أو تغييرها، بل ستظل على حالها مع احترام حقوق الكنيسة المسيحية، حتى لو كانت تحت سيطرة المسلمين.
-
الضرائب والجزية: وفقاً للعهد، كان على أهل الكتاب دفع الجزية في مقابل الحماية التي سيمنحها المسلمون لهم، وهي سياسة كانت متبعة مع أهل الذمة في كثير من المناطق التي تم فتحها.
التأثير الطويل الأمد للعهدة العمرية
إن العهدة العمرية لم تكن مجرد اتفاق للسلام بين المسلمين وأهل بيت المقدس، بل كانت بياناً عن رؤية عمر بن الخطاب لحكمه. فقد أصبحت هذه الوثيقة مرجعاً هاماً في التاريخ الإسلامي، إذ تجسد القيم الإنسانية التي دعا إليها الإسلام، مثل التسامح والعدالة والمساواة. كما كانت بداية لتعايش الأديان في أرض الشام على مدى قرون عديدة بعد ذلك، حيث عاشت المجتمعات المسيحية واليهودية جنبًا إلى جنب مع المسلمين.
قد أثبتت هذه الوثيقة أنها كانت خطوة تاريخية هامة في ضمان حقوق الأديان المختلفة، وكان هذا النوع من التعايش دليلاً على حكمة القيادة الإسلامية في تلك الحقبة. ومن الجدير بالذكر أن العديد من المؤرخين والمؤسسات الدينية المسيحية قد أشادوا بمواقف عمر بن الخطاب تجاه أهل بيت المقدس، معتبرينها نموذجاً للتسامح الديني في العصور الوسطى.
زيارة عمر بن الخطاب للقدس
من المعروف أن عمر بن الخطاب كان رجلًا متواضعًا، وكان يتنقل في المدن المفتوحة بزي بسيط، غير مبالٍ بمنصبه أو مكانته. وعند وصوله إلى بيت المقدس، رفض أن يدخلها على صهوة الجمل كما كان يقتضي البروتوكول، بل دخلها مشياً على قدميه برفقة جنوده. وعندما وصل إلى مكان يسمى “كنيسة القيامة”، أصر على الصلاة خارج الكنيسة، مبررًا ذلك بأن الصلاة داخل الكنيسة قد تفتح المجال للمسيحيين للمطالبة بتحويلها إلى مسجد فيما بعد. كان هذا التصرف تجسيدًا آخر لحكمته وحرصه على بقاء الحق في أماكن العبادة وفقًا لحقوق كل طائفة.
تسامح عمر بن الخطاب مع الطوائف المختلفة
إن التسامح الذي أبداه عمر بن الخطاب تجاه أهل بيت المقدس كان مع جميع الطوائف في المدينة، سواء كانت مسيحية أو يهودية. فقد كان دائمًا ما يسعى إلى ضمان حقوقهم وحرياتهم في ممارسة شعائرهم الدينية دون تدخل أو ضغط من السلطات الإسلامية. هذا التفهم والتقدير للعقائد المختلفة جعل بيت المقدس نموذجًا للتعايش الديني في المنطقة.
خاتمة
لقد كان تعامل عمر بن الخطاب مع أهل بيت المقدس نموذجًا في الحكمة والتسامح، يعكس عمق رؤيته الإسلامية التي قامت على أساس العدالة والمساواة بين مختلف الأديان. إن “العهدة العمرية” وما تضمنته من شروط عادلة كانت حجر الزاوية في تعايش المسلمين والمسيحيين واليهود في المدينة، وكانت تجربة تاريخية تعد مرجعًا يُحتذى به في تحقيق التعايش السلمي بين الأديان.
