نعمتان مغبون فيهما الناس

شرح حديث: “نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس”

الحديث النبوي الشريف “نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ” هو حديث صحيح ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدة مصادر، ومن أهمها حديث رواه البخاري في صحيحه، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ.” وهذا الحديث يسلط الضوء على اثنين من أعظم النعم التي يتمتع بها الإنسان، وهما الصحة والوقت، ولكنه في نفس الوقت يحذر من التفريط في الاستفادة من هاتين النعمتين، إذ إن كثيراً من الناس يضيعونها ولا يقدرون قيمتهما بشكل صحيح.

أولاً: شرح مفردات الحديث

“نعمتان”:

النعمة في اللغة تعني ما يتمتع به الإنسان من خير ورغد، سواء كان هذا الخير ماديًا أو معنويًا. وفي الحديث، النعمتان هما الصحة والفراغ. في هذه الجملة، يستخدم النبي صلى الله عليه وسلم كلمة “نعمتان” للإشارة إلى حالتين حساستين جدًا للإنسان، تكونان بمثابة ترفه وراحة عظيمة في حياته اليومية.

“مغبون فيهما”:

كلمة “مغبون” تشير إلى حالة الإنسان الذي يخسر شيئًا ذا قيمة عالية دون أن يدرك قيمته الحقيقية إلا بعد فوات الأوان. في هذا السياق، تعني “مغبون” أن الإنسان يضيع هاتين النعمتين، أي أنه لا يدرك قيمتهما الحقيقية حتى يفقدهما. والخسارة هنا لا تقتصر فقط على فقدان الصحة أو الوقت، ولكن على ضياع الفرصة التي كان من الممكن أن يتمتع بها في استغلالهما.

“كثير من الناس”:

النبي صلى الله عليه وسلم يشير هنا إلى أن هذه الظاهرة شائعة بين معظم الناس. أي أن أكثر الناس لا يقدرون قيمة الصحة والفراغ ولا يحرصون على استغلالهما في أمور مفيدة تعود عليهم بالنفع في الدنيا والآخرة. وهذا تحذير من النبي صلى الله عليه وسلم حتى ينتبه المسلم إلى كيفية استخدامه لهاتين النعمتين الثمينتين.

ثانياً: تفسير الحديث

الحديث في مجمله يعد تحذيرًا هامًا من إهمال الإنسان لصحتِه ووقته، وينبغي للمسلم أن يفهم أن هاتين النعمتين هما أساس لحياة طيبة وقوية، وأن التفريط فيهما يعني ضياع الفرص التي قد لا تعود.

1. الصحة:

الصحة هي أحد أكبر النعم التي يتمتع بها الإنسان، فهي تعتبر الأساس الذي يقوم عليه كل نشاطات الإنسان في حياته اليومية. بدون صحة جيدة، يصبح الإنسان عاجزًا عن أداء مهامه، ويجد نفسه محدودًا في قدراته البدنية والنفسية. النبي صلى الله عليه وسلم ينبه هنا إلى أن كثيرًا من الناس يستهينون بصحتهم في شبابهم ويستنزفون طاقتهم في أمور غير مفيدة أو مفرطة، دون أن يقدروا أن الصحة هي الأساس الذي من خلاله يمكن تحقيق النجاح في أي مجال من مجالات الحياة.

تعتبر الصحة في الإسلام من أعظم النعم التي يجب على المسلم أن يحافظ عليها، وقد ورد في الأحاديث النبوية العديد من التوجيهات التي تحث على الحفاظ على الصحة من خلال التغذية السليمة، والاعتناء بالنظافة، وممارسة الرياضة، والابتعاد عن العادات الضارة مثل التدخين وشرب الكحول. النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: “إن لبدنك عليك حقًا”. وفي الحديث الآخر: “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير”.

ولذلك، يجب على المسلم أن يكون واعيًا لقيمة صحته وأن يسعى جاهدًا للمحافظة عليها ليتمكن من أداء عباداته والقيام بواجباته في الدنيا.

2. الفراغ:

الفراغ هو نعمة أخرى قد لا يدرك الكثير من الناس قيمتها الحقيقية. في عالمنا المعاصر الذي يعج بالمشاغل والضغوطات، قد يعتقد البعض أن الفراغ يعني الكسل أو عدم الفائدة. لكن الحقيقة هي أن الفراغ يحمل فرصًا عظيمة يمكن من خلالها أن يقوم الإنسان بإنجاز العديد من الأمور المفيدة.

يأتي حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن الفراغ في سياق التحذير من التفريط فيه. فالبعض قد يجد نفسه في وقت فراغ طويل دون أن يعلم كيف يستغله بالشكل الأمثل. في حين أن الفراغ هو فرصة رائعة لتحقيق التوازن في الحياة، سواء كان من خلال تخصيص وقت للعبادة، أو تعلم مهارة جديدة، أو الانخراط في أنشطة تحسن من جودة الحياة. الفراغ ليس مجرد انقطاع عن العمل أو عن الأنشطة اليومية، بل هو فرصة للإبداع والتطوير الشخصي. في هذا السياق، يمكن للإنسان أن يعيد ترتيب أولوياته، ويخطط لمستقبله، ويعزز من مهاراته التي قد تساهم في تحسين نوعية حياته وحياة من حوله.

وقد ورد في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم: “اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل مرضك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك”. من خلال هذا الحديث، يحث النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين على اغتنام الوقت الذي يمر بسرعة، خاصة عندما يكون الإنسان في مرحلة من حياته لا يزال يمتلك فيها القدرة على الاستفادة من وقته.

ثالثًا: تداعيات التفريط في النعم

إن التفريط في الصحة والفراغ لا يقتصر على مجرد ضياع الوقت أو فقدان العافية فقط، بل قد يؤدي إلى تداعيات أكبر وأكثر تأثيرًا على حياة الفرد والمجتمع.

1. التفريط في الصحة:

عندما يهمل الإنسان صحته، فإنه يعرض نفسه للأمراض والإصابات التي قد تؤدي إلى تدهور حالته البدنية والنفسية، مما يؤثر بشكل كبير على نوعية حياته. وإذا لم يعتن الشخص بصحته في شبابه، فإنه قد يواجه صعوبات كبيرة في مرحلة متقدمة من العمر. علاوة على ذلك، فإن الشخص المريض يعجز عن أداء العديد من المهام اليومية ويعتمد على الآخرين، مما قد يؤثر على استقلاله وقدرته على المساهمة في المجتمع.

2. التفريط في الفراغ:

أما فيما يتعلق بالفراغ، فإن إضاعته في أنشطة غير مفيدة قد تؤدي إلى شعور الإنسان بالملل، وقد تساهم في شعوره بالعزلة أو الاكتئاب. كما أن كثرة تضييع الوقت في أمور تافهة قد تساهم في ضياع الفرص وتؤدي إلى عدم تحقيق الإنجازات الشخصية أو المهنية. الإنسان الذي يفرط في وقته في متع زائلة أو مشغوليات غير مجدية يفقد القدرة على التقدم والإنجاز، ويظل في دائرة مفرغة من التوتر والضغط النفسي.

رابعًا: كيفية استغلال النعمتين

1. استثمار الصحة:

أولًا، يجب على الإنسان أن يعنى بجسده ويحرص على صحته من خلال التغذية السليمة والرياضة المستمرة. الوقاية خير من العلاج، لذلك من المهم اتباع نمط حياة صحي منذ سن مبكرة. العناية بالجسم تشمل أيضًا الراحة والنوم الجيد، حيث يحتاج الجسم إلى فترة راحة يومية كي يتمكن من أداء وظائفه بشكل كامل.

2. استثمار الوقت:

أما فيما يتعلق بالفراغ، فيجب على المسلم أن يحدد أولوياته بدقة. يجب استغلال أوقات الفراغ في تحسين الذات، سواء عبر القراءة، أو تعلم مهارات جديدة، أو التفاعل مع الأسرة والمجتمع. وقت الفراغ هو فرصة حقيقية لإعادة ترتيب الأولويات، والتخلص من العادات السيئة، وزيادة الوعي الديني والثقافي. المسلم الذي يستغل وقته في العمل الجاد والطاعة لا يضيع الفراغ، بل يحقق فيه نجاحات عظيمة على المستويين الشخصي والروحاني.

خاتمة

الحديث النبوي الشريف “نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ” يوجه المسلم إلى ضرورة الانتباه لهاتين النعمتين الغاليتين، ويحثه على عدم التفريط في الاستفادة منهما. فالصحة والفراغ هما المفتاحان الرئيسيان لحياة متوازنة وناجحة. يجب على المسلم أن يعير انتباهًا كبيرًا لهما وأن يسعى جاهدًا لاستغلالهما في تحسين حياته الروحية والمادية على حد سواء، لأن في التفريط فيهما ضياع فرص ثمينة قد لا تعود.