من تكلم في المهد

من تكلم في المهد

عرف التاريخ البشري منذ فجره أحداثًا خارقة لا تخضع للنواميس المادية المعتادة، وقد وردت هذه المعجزات في الكتب السماوية لتدل على قدرة الله الخارقة، وتُعزّز الإيمان في نفوس البشر. ومن أبرز هذه المعجزات التي حفظها لنا القرآن الكريم والسنة النبوية حادثة “الكلام في المهد”، والتي تُعد من أعظم الآيات التي أيد الله بها عباده المختارين. لم تقتصر هذه المعجزة على شخص واحد، بل ذُكرت في سياقات متعددة، وفي مقدمتهم نبي الله عيسى عليه السلام. يشكّل هذا الموضوع مدخلًا مهمًا لفهم أبعاد الإعجاز الإلهي وخصائص النبوة والكرامة، بالإضافة إلى إبراز دلالات عظيمة في العقيدة الإسلامية.

الكلام في المهد: المعجزة والإعجاز

إن النطق عند الإنسان لا يكون إلا بعد اكتمال عدة عمليات عضوية وعصبية ونفسية، وهي عملية معقدة تبدأ تدريجيًا بعد الولادة، وتكتمل غالبًا في سنوات الطفولة الأولى. لذلك فإن قدرة رضيع لم يتجاوز الأيام أو الساعات الأولى على النطق والتعبير عن معانٍ مركبة تُعتبر خرقًا للعادات ومخالفةً للسنن الكونية، ما يجعلها تقع ضمن نطاق المعجزات أو الكرامات التي يجريها الله تأييدًا لأنبيائه أو تكريمًا لعباده الصالحين.

في هذا السياق، تبرز معجزة الكلام في المهد كآية دالة على صدق المرسلين، حيث اختار الله عز وجل لحظة الولادة، التي يكون فيها الرضيع في أضعف حالاته، ليجعل منها نقطة انطلاق لتبيان الحقيقة ودفع الشبهات والاتهامات.

عيسى بن مريم: المتكلم الأول في المهد

يعد نبي الله عيسى بن مريم عليه السلام المثال الأشهر والأبرز في حادثة الكلام في المهد، وقد ورد ذكر هذه المعجزة في مواضع متعددة من القرآن الكريم، لاسيما في سورة مريم. فعندما جاءت مريم عليها السلام إلى قومها تحمل وليدها، اتهموها بالبهتان العظيم، إذ لم يكونوا يعرفون أنها حملت به بمعجزة من الله دون أن يمسسها بشر. وكان الموقف حرجًا إلى أبعد الحدود، فجاء التدخل الإلهي:

قال تعالى:

(فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ۝ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا)

ــ سورة مريم: 29-30

في هذا السياق، تحدث عيسى عليه السلام وهو رضيع في مهده، دافعًا عن أمه مريم، ومعلنًا عبوديته لله، وتبشيره بنبوته. وهذا الموقف يمثّل إعلانًا إلهيًا عن حقيقة هذا المولود، وتأكيدًا على طهارة مريم عليها السلام وبراءتها من الاتهامات.

اللافت في كلام عيسى في المهد هو التركيب المعنوي والديني العميق: “إني عبد الله”، أي أن أول كلمة نطق بها كانت إعلان عبودية خالصة لله عز وجل، في رد مباشر على ما سيُقال لاحقًا من افتراءات حول ألوهيته أو بنوّته لله. وقد تضمّن كلامه أيضًا الإشارة إلى الرسالة والنبوة، مما يؤكد الطبيعة الاستثنائية لهذا الحدث.

حديث النبي عن المتكلمين في المهد

بالإضافة إلى نبي الله عيسى عليه السلام، ورد في الأحاديث النبوية الشريفة أن هناك أشخاصًا آخرين تكلموا في المهد، وهو ما وسّع من أفق هذه المعجزة ودلالاتها. ففي الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي محمدًا ﷺ قال:

“لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى، وصاحب جريج، وصبي آخر.”

وقد وردت روايات أخرى تذكر خمسة ممن تكلموا في المهد. وتتفق كتب الشروح والحديث على أن هؤلاء جميعًا أُجري الله على ألسنتهم الكلام وهم في سن الرضاعة لتبيان الحق ودفع الشبهات.

1. عيسى بن مريم عليه السلام

وقد سبق تفصيل ذلك في الفقرات السابقة، فهو المتكلم الأشهر والمعجزة الأعظم، لكونه نبيًا من أولي العزم.

2. الطفل الذي دافع عن أمه الزانية الظالمة

وقد وردت قصته في حديث النبي ﷺ عن امرأة كانت تُرضع طفلها، فمرت على فارس راكب فرسًا ذا شارة عظيمة، فقالت: “اللهم اجعل ابني مثله”. فترك الثدي وقال: “اللهم لا تجعلني مثله”، ثم مرت بجارية تُضرب ويُقال لها: “زنيتِ، سرقتِ”، فقالت: “اللهم لا تجعل ابني مثلها”، فقال: “اللهم اجعلني مثلها”، وشرح الطفل أنه رفض الفارس لتكبّره وظلمه، وأحب الجارية لصبرها على الابتلاء.

3. صاحب جريج العابد

جريج رجل صالح كان متعبدًا في صومعته، فاتهمته امرأة زانية بأنه والد طفلها. فأنكر الناس عليه وبنوا على ذلك عقوبات له. فطلب أن يُمهلوه حتى يصلي، ثم دعا الله أن يُظهر الحقيقة، فتكلم الطفل وأعلن براءة جريج، مما أعاد له كرامته ومكانته.

4. طفل امرأة ماشطة فرعون

ذكر ابن عباس في بعض الروايات أن ماشطة بنت فرعون لما علمت بأمر موسى، ورفضت أن تعبد فرعون، أمر الأخير بإحراقها وأولادها، وكانت تمضي بهم إلى النار، وحين ترددت في رمي رضيعها الأخير، تكلم الطفل وقال: “يا أمه، اصبري فإنك على الحق”، فكان ذلك تثبيتًا لها.

5. الطفل الذي دعا لأمه المرضعة

وردت رواية في بعض الكتب تفيد أن صبيًا رضع من امرأة، ثم اتُهمت بخيانة الأمانة، فنطق الصبي وأكد براءتها.

معاني الكلام في المهد

هذه الوقائع ليست مجرد عجائب تُروى، بل تنطوي على دلالات عميقة في العقيدة والفكر الإسلامي، منها:

1. إثبات النبوة

حديث عيسى عليه السلام في المهد جاء في لحظة حاسمة ليقطع دابر الاتهام الذي وُجّه إلى أمه، وليؤكد نبوته منذ أول لحظة، مما يدحض أي لبس بشأن هويته.

2. تكريم المظلومين ورفع الظلم

تكلم الأطفال في لحظات حاسمة جاء غالبًا لرفع الظلم، سواء عن جريج أو عن المرأة المرضعة أو الماشطة. فكان هذا الكلام شهادة إلهية لصالح الحق.

3. تأكيد قدرة الله الخارقة

الكلام في المهد معجزة تتجاوز العقل البشري وتُذكّر بقدرة الله المطلقة على خلق الأمور من عدم، أو مناقضة السنن الكونية متى شاء.

4. تأكيد مبدأ العبودية لله

في كل القصص، تتكرر إشارات إلى أن هؤلاء الأطفال لم يُظهروا عجبًا بأنفسهم، بل تحدثوا بإذن الله، مما يعزز مبدأ التوحيد والعبودية المطلقة لله.

مقارنة بين القصص المختلفة

الآثار العقدية والروحية

تشير حادثة الكلام في المهد إلى مدى قرب بعض عباد الله من الله تعالى، وإلى أن العناية الإلهية تتجلى في أدق تفاصيل الحياة الإنسانية. كما تزرع في القلوب الإيمان بأن الله يُظهر الحق مهما طال الزمان أو اشتدت التهمة. ومن الناحية العقدية، تبرز أهمية الإيمان بالمعجزات والكرامات كجزء لا يتجزأ من العقيدة الإسلامية التي تقوم على التصديق بالغيب وبالقدرة الإلهية التي لا تحدها القوانين الطبيعية.

خاتمة فكرية

حادثة الكلام في المهد ليست مجرد سرد تاريخي لوقائع خارقة، بل هي سجل حافل بآيات هداية ودروس في العقيدة والأخلاق والتاريخ البشري. لقد أراد الله أن تكون هذه المعجزات بمثابة إشارات واضحة على صدق المرسلين وطهارة المختارين وسمو القيم التي يدافعون عنها. كما أنها تذكّر بأن الله لا يترك عباده دون نصرة، وأنه يهيئ في أحلك الظروف وسائل لإظهار الحق ودفع الباطل، حتى لو كان ذلك على لسان طفل لم يكتمل نطقه بعد.

المراجع

• صحيح البخاري

• تفسير ابن كثير