فقدان الذاكرة الرجوعي

يُعد فقدان الذاكرة الرجوعي أو “Retrograde Amnesia” اضطرابًا عصبيًا معقدًا يؤثر على قدرة الفرد على استرجاع الذكريات التي تشكلت قبل حدوث إصابة أو صدمة في الدماغ. يعتبر هذا النوع من فقدان الذاكرة من المواضيع البارزة في علم الأعصاب وعلم النفس السريري، إذ يحمل تأثيرات نفسية وعصبية عميقة، ويُعد تشخيصه وفهمه ضرورة ملحّة في مجالات التأهيل الطبي والمعرفي. يتميّز فقدان الذاكرة الرجوعي بعدم قدرة المريض على تذكر الأحداث السابقة لحادث معين، مع احتفاظه غالبًا بالقدرة على تكوين ذكريات جديدة بعد الحادث، مما يفرّقه عن فقدان الذاكرة التقدّمي (anterograde amnesia).

التصنيف العصبي لفقدان الذاكرة الرجوعي

يُصنف فقدان الذاكرة الرجوعي ضمن مجموعة اضطرابات الذاكرة التي تحدث عادة نتيجة خلل في القشرة المخية أو في الهياكل العميقة داخل الدماغ مثل الحُصين (hippocampus) أو الفص الصدغي الإنسي. ويمكن أن يحدث بشكل مفاجئ نتيجة حادث رضحي أو بشكل تدريجي كما في حالات الأمراض التنكسية مثل الزهايمر.

الأسباب الرئيسية لفقدان الذاكرة الرجوعي

تتعدد العوامل التي تؤدي إلى هذا النوع من فقدان الذاكرة، وتشمل:

• إصابات الرأس: كالحوادث المرورية أو السقوط العنيف، حيث تؤدي الضربات القوية إلى إزاحة أو تلف الأنسجة الدماغية المسؤولة عن تخزين الذكريات.

• السكتات الدماغية: التي تؤثر على تدفق الدم إلى مناطق معينة من الدماغ ما يسبب فقدانًا جزئيًا أو كليًا للذاكرة السابقة.

• التهابات الدماغ: مثل التهاب الدماغ الفيروسي الذي قد يؤدي إلى تدمير الخلايا العصبية المسؤولة عن تخزين المعلومات.

• الصرع: خاصة في نوباته المعممة أو نوبات الفص الصدغي.

• الاضطرابات النفسية الحادة: مثل اضطراب الهوية التفارقي أو بعض حالات الهستيريا النفسية، والتي قد تؤدي إلى فقدان الذاكرة بصورة مؤقتة نتيجة الضغط النفسي الشديد.

• الأمراض التنكسية: مثل داء ألزهايمر وأشكال أخرى من الخرف، حيث يفقد الشخص تدريجياً قدرته على تذكر أحداث الماضي.

الأنواع الفرعية لفقدان الذاكرة الرجوعي

بحسب مدى الفقدان الزمني ونوعية الذكريات المفقودة، يُصنّف فقدان الذاكرة الرجوعي إلى عدة أنواع فرعية:

• فقدان الذاكرة الزمني: يتمثل في عدم القدرة على تذكر الأحداث التي وقعت قبل الحادث مباشرة، مع إمكانية تذكر الأحداث الأقدم.

• فقدان الذاكرة التعميمي: ويشمل فقدانًا واسعًا للذكريات، أحيانًا يمتد لسنوات أو حتى لعقود قبل الحادث.

• الفقدان الانتقائي: حيث لا يستطيع الشخص تذكر أحداث معينة دون غيرها، عادة ما تكون مؤلمة أو صادمة.

• الفقدان العالمي المؤقت: ويظهر بشكل نادر حيث يفقد المريض ذاكرته لفترة مؤقتة لا تتجاوز 24 ساعة، ثم تعود إليه تدريجياً.

خصائص الذكريات المتأثرة

غالبًا ما تتأثر الذكريات السردية (episodic memory) بشكل أكبر من الذكريات الإجرائية (procedural memory). هذا يعني أن المريض قد ينسى تفاصيل رحلاته وأعياده السابقة، لكنه لا ينسى كيف يركب الدراجة أو يكتب اسمه، مما يشير إلى أن الذاكرة تنقسم إلى أنظمة متعددة تخضع لتوزيع بيولوجي مختلف داخل الدماغ.

الجدول التالي يوضح الفروق بين أنواع الذكريات المتأثرة:

التشخيص العصبي والمعرفي

يعتمد تشخيص فقدان الذاكرة الرجوعي على مجموعة من الفحوصات الإكلينيكية والتقنيات التصويرية المتقدمة مثل التصوير بالرنين المغناطيسي (MRI) والتصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني (PET scan). كما يتم اللجوء إلى اختبارات الذاكرة الموحدة والمقننة لقياس مدى الفقدان.

قد يستخدم الأطباء أيضًا اختبارات الوظائف التنفيذية والانتباه لتقييم مدى تأثر المريض على المستوى الإدراكي العام، وغالبًا ما يرافق فقدان الذاكرة الرجوعي أعراضًا أخرى مثل الارتباك، اضطرابات النوم، أو صعوبات في التعرف على الأشخاص.

العلاقة بين فقدان الذاكرة الرجوعي والصحة النفسية

في بعض الحالات، يكون فقدان الذاكرة الرجوعي ناتجًا عن أسباب نفسية خالصة، كما في حالة فقدان الذاكرة التفارقي، حيث يختفي جزء معين من الذاكرة نتيجة التعرض لصدمة نفسية شديدة. في هذه الحالات، لا يوجد تلف عضوي ظاهر في الدماغ، ويكون العلاج النفسي هو المفتاح الأساسي لاستعادة الذكريات المفقودة.

العلاج وإعادة التأهيل

لا يوجد علاج واحد موحد لفقدان الذاكرة الرجوعي، بل يعتمد التدخل العلاجي على السبب الأساسي ومدى الفقدان. تشمل الخيارات العلاجية:

• العلاج الدوائي: في حال كان السبب مرتبطًا بالتهاب أو خلل عصبي يمكن التعامل معه دوائيًا.

• العلاج المعرفي السلوكي: يساهم في استعادة الذكريات الضائعة من خلال التفاعل مع المحفزات والتدريج في إعادة بناء السرد الزمني.

• العلاج بالمحفزات: مثل الصور العائلية أو الأصوات المألوفة، والتي تساعد في تحفيز استرجاع الذاكرة.

• برامج إعادة التأهيل العصبي: تركز على تدريب المريض على استخدام تقنيات التعويض المعرفي مثل التدوين اليومي والمساعدات التذكيرية الرقمية.

الآفاق المستقبلية والبحوث

تتجه الأبحاث الحديثة نحو فهم أفضل للآليات العصبية الكامنة خلف فقدان الذاكرة الرجوعي، وتعمل فرق علم الأعصاب على تطوير تقنيات علاجية قائمة على تحفيز الدماغ كهربائيًا أو باستخدام الذكاء الاصطناعي لمساعدة المرضى على استعادة ذكرياتهم. كما تُجرى دراسات على الجينات المرتبطة بمرونة الدماغ العصبية ومدى استعداده لإعادة تكوين الذاكرة.

من جهة أخرى، تُظهر دراسات علم النفس العلاجي أن وجود بيئة داعمة وهادئة يساهم في تحسن الحالة بشكل ملحوظ، ويخفف من الأثر النفسي الذي قد يسببه فقدان أجزاء من الهوية الذاتية المرتبطة بالذاكرة.

المصادر والمراجع:

• Squire, L. R., & Wixted, J. T. (2011). The Cognitive Neuroscience of Human Memory Since H.M. Annual Review of Neuroscience, 34, 259-288.

• Kopelman, M. D. (2000). Focal retrograde amnesia and the attribution of causality: an exceptionally critical review. Cognitive Neuropsychology, 17(7), 585-621.

• American Psychiatric Association. (2013). Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders (5th ed.).

• Levine, B., Svoboda, E., Hay, J. F., Winocur, G., & Moscovitch, M. (2002). Aging and autobiographical memory: dissociating episodic from semantic retrieval. Psychology and Aging, 17(4), 677.

هل ترغب أن أجهّز لك نسخة قابلة للنشر مباشرة بتنسيق HTML أو Word؟