نشأة مالك بن دينار

نشأة مالك بن دينار

ولد مالك بن دينار في أواخر القرن الأول الهجري، ويُعتقد أن ولادته كانت في البصرة، وهي من أبرز حواضر العلم في ذلك العصر، وتُعد من المدن التي أسهمت في نشوء ونمو الفكر الإسلامي والنهضة الدينية والثقافية. ومالك بن دينار هو أحد التابعين، عاش في زمن كانت الأمة الإسلامية فيه في أوج توسعها الجغرافي والسياسي، لكنه انصرف عن زينة الدنيا ومتاعها، وسلك طريق الزهد والتقوى، وكرّس حياته للعلم والعمل الصالح، حتى أصبح من أعلام التابعين الزهاد والوعّاظ المؤثرين في قلوب الناس.

اشتهر بنسبه إلى «دينار» وهو اسم أبيه، وكان مولًى لأحد كبار الصحابة، ويُقال إنه كان من موالي أنس بن مالك أو من موالي بني سليم، وهذا النسب إلى الموالي لم يُنقص من قدره في الأمة، فقد نال مكانة رفيعة بفضل علمه وزهده وإخلاصه. وتُظهر نشأته المبكرة في مدينة مثل البصرة مقدار تأثره بالبيئة العلمية الزاخرة التي اتسمت بها المدينة، حيث احتضنت حلقات العلماء والوعاظ والقراء.

البيئة الثقافية والدينية في البصرة

كانت البصرة في القرن الأول الهجري مركزًا مهمًا من مراكز الفقه والتفسير والحديث، وكان فيها من الصحابة من نزلوا بها بعد الفتوحات الإسلامية، وأسّسوا فيها مدارس علمية وروحية أثرت في تلامذتهم وفيمن جاء بعدهم من التابعين. ولا شك أن هذه البيئة الزاخرة بالأعلام كان لها بالغ الأثر في تكوين شخصية مالك بن دينار.

تلقى مالك العلم من عدد من كبار الصحابة ومن التابعين الأوائل، وممن تأثر بهم بشكل مباشر أنس بن مالك، الصحابي الجليل وخادم رسول الله ﷺ، وكذلك الحسن البصري الذي يُعد من أعلام الزهد والورع في الإسلام، وأيضًا محمد بن سيرين الذي عُرف بصدقه وفقهه وتفسيره للرؤى. هذه النماذج كانت تمثل المرجعية الدينية والعلمية لمجتمع البصرة، وكان لها أعظم الأثر في تشكيل الفكر الديني والروحي لمالك بن دينار.

ملامح نشأته الأولى

تفيد الروايات أن مالك بن دينار لم يكن من بداية أمره زاهدًا أو عابدًا، بل كان عكس ذلك، فقد كان في شبابه غارقًا في اللهو والمعاصي، وكان يعمل كاتبًا في الشرطة، ويشرب الخمر، ويعيش حياةً لا تُعبر عن حاله الذي عُرف به لاحقًا. وقد دوّن المؤرخون قصة توبته المشهورة التي كانت نقطة تحول كبرى في حياته.

يرتبط تحول مالك بن دينار برواية ذُكرت في أكثر من مصدر، وهي أن له ابنة صغيرة توفيت، فحزن عليها حزنًا شديدًا، وكان يحبها حبًا عظيمًا، ثم رآها في رؤيا بعد وفاتها، وكانت تدفعه في المنام إلى التوبة والرجوع إلى الله، وكان هذا المنام سببًا في صحوته من الغفلة، وانقطاعه لعبادة الله تعالى، وزهده في الدنيا وزينتها. وتُشير القصة إلى عمق التأثر النفسي الذي تركه الحدث في نفسه، وتحول هذا الأثر إلى قوة دفعته إلى العبادة والورع والتقوى حتى أصبح من العارفين الزهاد.

انتقاله من الغفلة إلى التوبة

إن قصة توبة مالك بن دينار تمثل نموذجًا عميقًا في أدبيات الزهد الإسلامي، وتدل على قدرة الإنسان على التحول الجذري حين تصدق نيته ويتجرد قلبه لله. لم يكتف مالك بالتوبة الشكلية، بل انقطع عن الدنيا، وترك عمله، وبدأ رحلة جديدة من العبادة والتعلم ونشر الوعظ. كان يقضي أكثر أوقاته في قيام الليل وقراءة القرآن، وكان ذا أثر بالغ في النفوس، لما تميز به من صدق وتجرد، ولأن تجربته كانت حية نابضة، يتحدث فيها من قلبه.

ولم تكن توبته انزواء عن الحياة، بل كانت انخراطًا في العمل الدعوي من أوسع أبوابه، فبدأ يعلم الناس القرآن والحديث، وينشر الوعظ في المساجد، ويُذكّر الناس بالآخرة، ويحثهم على الزهد والإنابة إلى الله. وقد ذُكر أنه كان يبكي كثيرًا من خشية الله، وكانت دموعه حاضرة حين يذكر الموت أو الحساب، وكان ذلك يؤثر كثيرًا فيمن حوله.

التكوين العلمي والروحي

لم يكن زهد مالك بن دينار مجرد انقطاع عن متاع الدنيا، بل كان نابعًا من فهم عميق للدين وأصوله، وقد تعلّم القرآن وعلومه، وأتقن الحديث النبوي، وروي عنه كثير من الأحاديث. وكان مجلسه يعج بالناس، منهم من يتعلم، ومنهم من يستمع إلى مواعظه، وكان أثره يمتد إلى أهل البصرة وخارجها.

كان ممن تتلمذ على يديه عدد من التابعين والزهّاد، وكان له فضل في غرس مفاهيم التقوى والزهد في أجيال كثيرة، لا سيما من خلال حديثه عن صدق التوبة، وتذكيره للناس بزوال الدنيا وسرعة فنائها. وكان حريصًا على العمل الصالح، زاهدًا في المظاهر، لا يغتر بشيء من مال أو جاه، وكان يعيش في بيت متواضع، يلبس اللباس البسيط، ويأكل من كسب يده، وكان لا يقبل العطايا، بل يعمل في مهنة بسيطة تكفيه دون أن يكون عبئًا على غيره.

تأثيره في الحركة الزهدية

يُعد مالك بن دينار من أوائل من رسّخوا مفهوم الزهد كمسلك عملي وروحي في حياة المسلم، وكان له أثر بالغ في التيار الزهدي الذي ساد في القرنين الأول والثاني الهجريين. وقد شكّلت آراؤه ومواعظه مادة خصبة لكتب الزهد التي ألّفها المحدثون والمؤرخون في القرون اللاحقة مثل كتاب “الزهد” لعبد الله بن المبارك وكتاب “الزهد الكبير” للإمام البيهقي.

كان يرى أن القلب لا يصفو إلا حين يتخلص من أعباء الدنيا، وكان يحذر الناس من الانشغال بالماديات على حساب الآخرة. وقد اشتهرت عنه مقولات بليغة مثل: “يا ابن آدم، إنك تموت وحدك، وتبعث وحدك، وتحاسب وحدك”، ومثل هذه الأقوال لا تزال متداولة في كتب الوعظ والتربية الروحية.

وفاته وتركته العلمية والروحية

توفي مالك بن دينار في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، ويُرجح أن وفاته كانت في حدود سنة 131 هـ، وقد عاش عمرًا مديدًا قضاها في العبادة والتذكير والوعظ. لم يخلف كتبًا مكتوبة باسمه، لكن أقواله وأحاديثه ورواياته حُفظت في كتب الحديث والوعظ والتصوف، وكان لها تأثير بالغ في الأجيال التي جاءت من بعده، خاصة في البيئات التي انتشر فيها الزهد والتصوف.

تركته لم تكن تقتصر على أقواله، بل في نموذجه الحي الذي مثّل كيف يمكن للإنسان أن يتحول من الغفلة إلى الصحوة، ومن اللهو إلى العبادة، ومن المادية إلى الروحانية. وقد جسّد في حياته المعنى الحقيقي للإخلاص والإنابة، وصدق التوبة، وعمق المحبة لله.

الجدول: مقارنة بين حياة مالك بن دينار قبل التوبة وبعدها

المصادر والمراجع

• الذهبي، سير أعلام النبلاء، الجزء الخامس.

• ابن الجوزي، صفة الصفوة.